تمت كتابة هذه النصوص خلال هبة أيار 2021 والأحداث التي تبعتها في أنحاء فلسطين. أحسسنا في فترة الهبة بضرورة وجود حوار عن الحيّز الذي تناله المشاعر التي نختبرها كأفراد ومجموعات في مثل هذه اللحظات التاريخية وشعرنا بمسؤولية المساهمة في فهمها وتأطيرها. ننشر هذه السلسلة الان بعد مرور سنة ونصف على الأحداث التي كانت المحفّز الأساسي للكتابة، لكن نجد أن هذه النصوص ومحتواها يبقى ذو صلة مع الكثير من الأحداث التي تلت الهبة وما زالت تحدث في البلاد. نُشر نصين من السلسلة في موقع باب الواد ونشكرهم ونشكر المحررة ريتا ابو غوش تحديدا للجهد الذي بذلته معنا في تحرير النصوص الخمس الاولى. نشكر ايضا ملك عفونة على تحريرها النصين الاخيرين.
السياق والمحفّز لكتابة النصوص
التقينا – لويس وزينة وعلي – في شهر أيّار 2021 خلال الهبّة الشعبية الواسعة في فلسطين، وتشاركنا المشاعر والتجارب التي اختبرناها، ومنها الحاجة للكتابة حول محتوى هذه النصوص. التقت أفكارنا حول المواضيع المتعلّقة بعلم النفس التحرّري، بعد دراساتٍ وقراءاتٍ كنّا قد أجريناها في السنوات الأخيرة في هذه المجالات، وأصبحت هذه العدسات والقراءات أساسيّةً ومهمّة مع قدوم لحظةٍ تاريخيّة كهذه. وجدنا أنفسنا نتواصل بشكلٍ جديدٍ ومُعاش مع بعض القراءات أو التجارب التحرّرية.
خلال أشهر الهبّة، وتجربتنا المعاشة والفعاليات المتنوعة خلالها، التقينا في جلسات عصفٍ ذهني أسبوعيّة لكتابة الأفكار التي استوحيناها من أحداث الهبّة وردود فعل المجتمع عليها. وبعد تجهيز المسودّات الأوّلية من النصوص، بدأنا مشاركتها مع الأصدقاء والمعارف ولاحظنا الحاجة لتفسير بعض المفاهيم التي نستخدمها في هذه النصوص وفي تفكيرنا في الهبّة، والتي من الممكن أنّنا نتعامل معها بصفتها مفهومةً ضمنّاً لدينا. وأيضاً، برزت الحاجة لتفسير موقفنا المنهجي في كتابة هذه النصوص. لذا، جاءت هذه المقدّمة بهدف بناء لغةٍ وتصوّراتٍ مشتركة قبل الغوص في محتوى نصوص هذه السلسلة.
يمكننا اعتبار ما شهدناه في احداث الهبّة الشعبية الواسعة سنة 2021، نتيجة صيرورات بلوغٍ جماعيّ بدأت وتراكمت منذ سنواتٍ ولم تكُن وليدة لحظتها. ولكي نتمكن من تأمّلها وفهمها وتحليلها بوصفها نتيجةً لتراكماتٍ سبقتها من جهة، وبذات الوقت أحداثاً تجري في فترات الهبّات الشعبية وتؤسّس للمستقبل ويُمكن المراكمة عليها، كتبنا سلسلة النصوص هذه، والتي نسعى فيها إلى موضعة تجربتنا ومشاعرنا وأفكارنا وقيمنا وأنماطنا الاجتماعية في بؤرة البحث والتساؤل عن المعاني والأشكال التي يتّخذها القهر فيها، وعن سبل التحرّر التي علينا أن نسلكها.
ما نقصده بمصطلح القهر المستخدم في النصوص هو القمع الممنهج والمستمرّ الذي يطال جميع الأبعاد الحياتيّة عند الإنسان المقهور – كالاستعمار والأبوية والرأسماليّة – ويحدّ من فاعليته. ومن شأن الحدّ من الفاعليّة سلب الإنسان القدرة على تحديد مصيره، وسلب الجماعات المقهورة القدرة على بناء الانتماء واللحمة الجمعية (حسّ الـ «نحن»).
يتضمّن التحرّر «تحطيم سلاسل وقيود القهر الشخصيّ بنفس مستوى تحطيم قيود القهر المجتمعي» [1] ذلك أنّ تذويت القهر وعمل المنظومة في أنفسنا (في علاقتنا مع ذواتنا ومع الآخرين) هو أحد الوسائل الأساسيّة التي تديم بها منظومات القهر هيمنتها. نستنتج هنا أنّ على سعينا للتحرّر أن يطال تغيير الأنماط النفسيّة، بالتزامن مع تغيير الشروط والمباني الاجتماعية للقهر [2]. كان سعينا للتعمّق في هذه الجوانب والمستويات وتفكيكها أحد الدوافع للعمل على هذه السلسلة.
مناهضة وتفكيك الاستعمار
في التنظير المناهض للاستعمار عادةً ما تكون نقطة الانطلاق هي تحليل المباني الاستعماريّة بصفتها اجتماعيّة، بدلاً من تحليلها كحقائق تاريخيّة. فمن هذه التنظيرات مثلاً، نتج الفهم عن العرق (Race) باعتباره نتاج صيرورة التصنيف العرقيّ أو العنصرة (Process of racialization)، وليس بوصفه حقيقةً طبيعيّةً أو بيولوجيّة. وقد كان وما زال المحرّك لهذه الصيرورة هو قوّة الأنظمة المعرفيّة (البيولوجيّة والأنثروبولوجيّة وغيرها) التي تنتج معرفةً منحازةً لأصحاب السلطة، وتبرّرها وتضفي شرعيةً على وجودها كمالكةٍ لـ «المعرفة» المطلقة والوحيدة، وصاحبة السلطة على الأجساد، وتمنح شرعيّة لوجود الاستعمار (في تأطيرها لـ «حقائق علميّة» تثبت دونية المستعمَر) [3]. مثال آخر ومكمّل للفكرة الآنفة هو نسبة الفروقات الجندريّة أو العرقيّة أو الطبقيّة إلى البيولوجيا، والتي هي فكرة أساسيّة في الفكر الأوروبيّ، من شأنها ربط مفهوم الدونيّة البيولوجيّة مع الدونيّة الأخلاقيّة، ليؤسّس أصحاب السلطة فوقيّتهم بواسطة البيولوجيا ويتمّ تقديمها كحقيقةٍ محايدة وكونيّة، ضمن مساعي تعزيز سيطرتهم على «الآخرين» (الدونيّين بيولوجيّاً وأخلاقيّاً) [4].
تتّضح العلاقة بين أنظمة المعرفة الأكاديميّة والأنظمة الاستعماريّة إذا اعتبرنا أنّ القوّة ليست مجرّد شيءٍ يمتلكه شخص ويمارسه من الأعلى للأسفل، بل هي نتاج علاقة قوّة (سلطة). وليكون هناك شخص قوي، يجب أن يكون (أو يتكوّن) شخص ضعيف في المقابل، وحتّى يكون هناك مُستعمِر، يجب أن يكون هناك أيضاً مُستعمَر.
بدورها، تقدّم الأيديولوجيا تفسيراتٍ معيّنة للواقع، والتي تعمل على تبرير الأنظمة والمباني المجتمعيّة المهيمنة وإضفاء الشرعيّة عليها، وصولاً إلى تقديمها كأنّها أشياء «طبيعيّة»، لا تاريخيّة. ومن هنا، فإنّ تفكيك أدلجة الواقع يتكشف عن المصالح وعلاقات القوّة التي تعمل من خلف الكواليس على تأطير المعرفة والحقيقة والواقع.
وعلى الرغم من أنّنا نعيش ظروف الاستعمار الاستيطانيّ في فلسطين، فإنّنا نتعامل في هذه النصوص مع المفهوم الواسع لمصطلح «الاستعمار» (Coloniality)، باعتباره صيرورة تجذير قيمٍ وطرق حياةٍ ومعرفةٍ لأنفسنا وواقعنا، تخدم وتعزّز وتطبّع قهرنا والاستبداد بأطيافه الطبقيّة والعرقيّة والاستعماريّة والجندريّة (النوع الاجتماعي) وغيرها. وينطلق هذا التوجّه من الوعي بأنّنا جميعاً نخضع للتشكيل (أيّ أنّ ذواتنا ونفسياتنا وأفكارنا تتكوّن) من خلال أنظمة القيم الاستعماريّة التي تتأسّس عليها أنظمة المعرفة وتصنيفاتها، والتي تخلق أنماطاً للتصنيفات وتعتمد عليها. فمنذ الولادة وفي كلّ سياقٍ يعيشه الفرد، يجد نفسه موضوعاً في خانةٍ معيّنة، وتتطوّر ذاته وكينونته حول تلك الخانة.
تكمن النقطة الأساسيّة هنا في أنّ الاستعمار صيرورة اختزالٍ فعّالٍ للشخوص المُستعمَرة وسلب لإنسانيّتهم بإخضاعهم للقهر والتصنيفات الاستبداديّة، بينما يتمّ تقديم النموذج الأوروبيّ بصفته قمّة التحضّر والإنسانيّة، وتحويل المُستعمَرين غير-الأوروبيين لشيء غير «بشري» [5]. مثال على ذلك، اعتبار المستعمِر الأوروبي لباس المرأة المحجّبة تخلّفاً وقمعاً أبوياً بشكلٍ مطلق، ومن ثمّ السعي لإنقاذ النساء المحجّبات (وقد نوقش هذا التوجه بتوسعٍ في عدّة مقالات [6]). يظهر لنا هنا أنّ الاستعمار والتفكير المرتبط به يرى طريقةً واحدةً فقط لتخلّص النساء من القمع الذكوريّ دون اعتبارٍ لاختيارات النساء أنفسهنّ. لهذا، تُفهم صيرورة التصنيف العرقي أيضاً كنتيجةٍ لسيرورة استلابٍ ثقافيّ، يتمّ فيها تشويه وسلب طرق حياة ومعرفة الشعوب الأصلانيّة، واستبدالها بتلك الاستعماريّة [7]. مثال على ذلك هو استخدام المستعمِرين تصنيفاتهم «العلمية» للنباتات وإلغاء المعرفة الأصلانيّة لها ونزع الشرعيّة عنها، وهذا ما يُسمّى بالاستعمار الثقافيّ، وهو جزء أساسيّ من عمل الاستعمار ونجاحه.
وبما أنّ الاستعمار يتأسّس على المعارف التي يتمّ بموجبها تعريف وتصنيف البشر بهدف استغلالهم وتسليعهم والاستحواذ على مواردهم، يستلزم النجاح في مقاومة القهر أن نفهمه على حقيقته كقهرٍ استعماريّ ورأسماليّ وعرقيّ وجندريّ؛ وأن نفهم تجذيره في نفسيّاتنا ونسيجنا الاجتماعيّ، بالإضافة إلى اعتبار تفكيكه مقاومةً يوميّةً لجميع جوانب النسيج المجتمعيّ المحيطة بنا.
في ممارسة لتفكيك الاستعمار، هناك أهمية كبيرة لإنشاء علاقةٍ جدليّة بين بناء المعرفة (الكشف عن مباني القوة الاستعمارية التي كانت مطبَّعة وغير ظاهرة) وبين الفعل الثوريّ (أيّ تفكيك هذه المباني واكتشاف جوانب خفيّةٍ أخرى لها، والتي تحتاج بناء معرفةٍ من جديد) [8]. ولأنّ المعرفة المفكِّكة للاستعمار تنبثق وتنطلق من التجارب المعاشة للمجموعات المستعمَرة، وتعيد بناء السرديّات وتحليلات القهر بدلاً من إسقاط نماذج ومعارف جاهزة ومسبقة على المجموعات المقهورة، فهي لا تشكّل «معرفةً» واحدةً كونيةً لها شكل واحد وثابت، بل على العكس؛ فهي متعدّدة الأشكال بتعدّد السياقات والمواقع المختلفة التي تتجسّد فيها هذه المعارف [9]. في هذه الممارسة، ليست المقاومة نقطة نهايةٍ أو هدفاً للنضال السياسي، إنّما هي نقطة بدايته وشرط وجوده. بذلك، فإنّ ممارسة تفكيك الاستعمار تتضمّن طرح نقدٍ للقهر المعنصر- الاستعماري والرأسمالي والجندري – كتغييرٍ مجتمعيّ معاش [10].
تفكيك الاستعمار في نفسيّاتنا
بما يخصّ موضوع هذه النصوص، تدفعنا علاقة الاستعمار بالمعرفة الأكاديميّة والعلوم المهيمنة إلى التأمّل في علم النفس كصاحب السلطة الاجتماعيّة على تكوين المعرفة حول النفس والعلاقات البشريّة.
تشير تحليلاتٌ مناهضة للاستعمار إلى أنّه، ومنذ أكثر من قرن، عمل علم النفس اليورو-أمريكي على تقديم الأُسس للتأطيرات السيكولوجيّة للـ «آخر» غير الغربيّ، ولعب دوراً أساسياً في تكوين دلائل وإثباتات فلسفيّة و«علميّة» تُثبت الدونيّة النفسيّة المتأصّلة عند غير الغربيين والفوقيّة النفسيّة لـ «العرق» الأبيض. وقد استخدمت القيادات السياسية الأوروبية هذه الدلائل لتبرير وتفسير القهر الاستعماريّ لغير الغربيين [11].
ولأنّ الاستعمار يعمل على تشكيل أنفسنا وذواتنا، ولأنّ تفكيكه ينطلق من تجاربنا المعاشة، فإنّ تفكيك الاستعمار في أنفسنا وعلاقاتنا هو شرط جوهريّ وأساسيّ للتحرّر؛ أيّ أنّه «لمواجهة وتغيير علاقات القوّة، التي هي جزء من تكوين ذواتنا وتموضعنا في سياقاتنا، يجب أن نفكّك وندمّر ونعيد بناء أجزاء من أنفسنا» [12].
بفهمنا لدور الاستعمار (والمعارف التي يتأسّس عليها) في بلورة اختبارنا وتخيّلنا لذواتنا، وفي تكوين نموذجٍ رأسماليّ ونيوليبيراليّ للذاتيّة، يتّضح لنا أنّ مفهوم الذاتيّة الرأسماليّ والنيوليبراليّ الذي يفرضه الاستعمار يعتمد على مفاهيم لا تتلاءم مع العديد من الثقافات، ممّا دفع العديد من المفكّرين المناهضين للاستعمار للإصرار على أنّ تفكيك الاستعمار هو بالأساس مشروع سيكولوجي يشمل «استرجاع الذات» وبلورة نموذجٍ جديدٍ لـ «الإنسانية». يعني هذا أنّ دور علم النفس، على فرض أنّه يخدم مصلحة المجتمعات، بالضرورة يشمل فهم والتنظير حول المقاومة النفسيّة للاستعمار وعمليّة «التحضير» التي يجلبها [13].
يدفعنا كلّ ذلك للتأمّل في مجال علم النفس التحرّري كفكرٍ مناهض للاستعمار، والذي لا يشكّل نموذجاً معرفياً مقابل نماذج معرفيّة مُمأسسة، وإنّما هو مجموعة من التوجّهات التي تنطلق من رفض التأطيرات التقليديّة والمهيمنة (والاستعماريّة) لعلم النفس وبناء معرفة موضوعيّة عن العالم من تجربة المقهورين المعاشة. الموضوعية في هذه المعرفة تنبثق من التجربة المعاشة للمقهورين، ولا تدّعي وجود «موضوعيّة» كونيّة. بالتالي، وفي كلّ سياق قهر، تنتج عن علم النفس التحرّري معرفةً وممارسةً متباينةً بتباين السياقات.
لا نسعى في عملنا هذا إلى طرح تساؤلات حول العلاقة بين علم النفس المهيمن وبين علم النفس التحرّري في سياقنا الفلسطينيّ الراهن بهدف إنتاج خصوصيّةٍ فلسطينيةٍ كاستثناءٍ للمنظور الكونيّ. كما لا نسعى إلى بناء نظريّةٍ شاملة وكاملة عن النفس البشرية، بل نسعى لأن نساهم في خلق مساحةٍ للتفكير في الأبعاد النفسيّة لتجاربنا وتوضيح أهميّة تجذير المعرفة في تجربتنا كعمليةٍ ديناميكيةٍ مستمرّة، كل ذلك من أجل فهم واقعنا والعوامل التي تستمرّ في التأثير علينا، وكيف نتفاعل مع هذه العوامل.
تفكيك الاستعمار في منهجيّات عملنا وتعاملنا مع السلسلة، وفي مضمون النصوص
يهمّنا موضعة أنفسنا ككاتبات بشكلٍ فعّال في النصوص، ونخاطب بواسطتها القرّاء أولاد شعبنا. نستند إلى موضوعيّة تنطلق من تجربتنا المعاشة وتُخلص لها. وهنا، نعي جيداً أنّ هذا الموقف يُضفي محدودياتٍ معينة، فمنها نرغب بدعوة جميع القرّاء والقارئات للتواصل معنا في حال رغبن في إضافة أصواتٍ وقراءاتٍ لهذه السلسلة. إذ لا نعتبر هذه السلسلة كأنّها نصوص تُعطي حلّاً نهائياً أو نموذجاً ناجزاً لفهم الواقع، إنّما تقدّم خطواتٍ أولى لحوارٍ جمعيّ حول هذه المواضيع. بكلماتٍ أخرى، لا نطمح هنا لإعادة إنتاج الهرميّة بين منتج المعرفة و«موضوع» المعرفة، بل نسعى لفتح حوارٍ ونقاش، مع ومن أجل أولاد شعبنا الذين نشاركهم ويشاركوننا الهموم والسياقات الاجتماعية وواقع القهر ومواجهته. لذا، نموضع أنفسنا ككاتبات بصيغة المتكلمات، ونمتنع بشكلٍ فعّال من الكتابة «عن» التجربة عن بعد وباستخدام صيغة الغائب [14].
نضيف أنّ حوارنا مع الأدبيّات النسويّة والتحرّريّة واستخدامنا لها هو مخاطبة لا تهدف لاستجداء شرعيّةٍ إضافيةٍ منها أو لاستخدامها كحقائق بديلة، ولكنّنا نسترجعها كتجارب ألهمتنا في عمليات التفكير والتعامل مع الواقع الذي تحاكيه، ووجدنا فيها صدىً لتعاملنا وعلاقتنا مع واقعنا. بذلك، ننطلق من تجربتنا -كمجتمع- كمعرفة مهمة وكمقياس لمدى استفادتنا من النصوص والمراجع التي تكشف وتعلّمنا من عمل مجموعاتٍ أخرى تساءلت، كما نتسائل نحن، حول الأبعاد النفسيّة للقهر والمواجهة.
مثلًا، عند اقتباس «مارتن بارو» في بداية النصّ، نرى أهميّة المقولة التي يطرحها عن التحرّر من الاستعمار والفاشية في السلفادور؛ كونها نابعةً من ممارسته الفعليّة لهذا النضال الجمعيّ، والتي كانت بمثابة الجذر الذي شكّل مواقفه وتحليله لعلم النفس المهيمن، وكذلك مواقفه من مهنة المعالج النفسي. وبدورنا، نعود ونؤكد هنا أننا بدلاً من إحضار النقد أو النظرية أو النموذج، وبدلاً من التكلّم عن مؤسّسي الفكر والتوجّه، نسعى لنقاش الأبعاد النفسيّة لتجاربنا من مكاننا كفلسطينيّين نعمل في مجال الصحة النفسيّة – من خلال عملنا كأساتذة أو باحثات أو معالجات في المجال – أو في أدوارنا الأخرى كأولاد شعب. نضيف أيضاً أنّه لدى استخدامنا لاقتباساتٍ مباشرة من «فانون» عن تجربة الجزائر أو «فريري» في البرازيل، استبدلنا مصطلح «الرجال» المستخدم في نصوصهم بالـ «شخوص» حذراً من فخ الذكوريّة في لغتنا.
قبل البدء في تأمّل وتحليل المشاعر والتجارب التي اختبرناها في الهبّة الشعبية، اتّخذنا في النصّ الثاني – «أساسات للتحرّر النفسي: منظور مناهض للاستعمار» – خطوةً إلى الوراء وتأمّلنا في المعرفة القائمة حول المشاعر والذاتيّة (Subjectivity). في هذا النص، نتأمّل في الإشكاليات القائمة في علم النفس المهيمن (كفرعٍ أكاديميّ واستعماريّ) وأساليبه، بما يشمل الخطابات المهيمنة، والتي تعدّ المعرفة الحقيقية الوحيدة التي تمتلك سلطة وشرعيّة البتّ في موضوع المشاعر، وتؤطّرها كردود فعلٍ فرديّة وشخصيّة، أو كخللٍ في النظام النفسيّ وكشيءٍ يجب إدارته والسيطرة عليه. يضع هذا التوجّه المشاعر في ثنائيةٍ هرميّةٍ مع المنطق والفكر، ويفهمها كعاملٍ يخلّ في التفكير المنطقيّ والسليم.
لذا، نبدأ في القسم التالي من النصّ بوضع حجر الأساس للتوجّه النسوي والمناهض للاستعمار الذي تعتمد عليه هذه السلسلة، ونرى وفقاً له أنّ مشاعرنا ليست منفصلةً عن بقيّة تجربتنا المعاشة (الجانب الفكري والجسدي والسلوكي) ولا تضرّ في التفكير المنطقي، بل على العكس، تشكّل بحدّ ذاتها مصدراً للطاقة والمعلومات، وعلينا احتضان تركيبتنا المشاعريّة والنفسيّة بكلّ ما تشمله من مشاعر – إيجابيّة أو سلبيّة – وتناقضات.
نتعمّق في النصّ الثالث – «محطّة العمل مع المشاعر: تخطّي الثنائيات» – في بعض الثنائيات المهيمنة في مجال علم النفس التي تؤثّر على النشاط السياسيّ وتبلور فيه ثنائياتٍ إضافية. ونتناول تحديداً ثنائية الصدمة والتعافي، والتي يتمّ وفقاً لها تقسيم الأشخاص والمجتمعات التي تعيش في قهرٍ سياسي ممتدّ إلى مجموعتين (وفقط مجموعتين) وهي إمّا أنّهم ضحايا مصدومون وبحاجةٍ لعلاجات اضطّراب ما بعد الصدمة، أو أنّهم صامدون ومتعافون وفاعلون، ولا يمتلكون مشاعر سلبيّة أو عوارض الصدمة.
في هذا النصّ، نخضع هذه الفرضيات والثنائيات للقراءة النقديّة، ونعرض محدوديّات هذا التوجّه – من جهة تعريفه لـ «الصدمة» ومن جهة تعريفه (أو صعوبة تعريفه) للشخوص التي تختبر عنفاً سياسياً – وعدم ملاءمته لسياقنا. في القسم التالي من هذا النص، نستمرّ في تطوير اعتبار المشاعر كمصدرٍ للمعرفة، ونحاول فهم ما تعلّمنا إياه مشاعر كالخوف والغضب وما تكشفه لنا عن المباني الاجتماعية القاهرة التي تحيطنا.
في النصّ الرابع – «استعادة الذاكرة الجمعية وتشكيل الوعيّ السياسي كأفعال تحرّرية» -، نعرض سيرورة استعادة الذاكرة الجمعيّة كممارسةٍ جمعيّة تتيح تجاوز خطاب الضحية (النابع من ثنائية المصدوم- الصامد، أو ثنائية الضحية- المقاوم) وتجاوز خطاب «المقاوم المجرّد والمتعالي على الشعور».
إنّ استعادة الذاكرة الجمعيّة هو عامل مركزيّ في سيرورة تطوير الوعي النقديّ وتكوين الهوية الجمعيّة (والطبقيّة)، ويساعدنا كشعبٍ مقهور على فهم واقعنا والمباني الاجتماعيّة وعلاقات القوّة القاهرة التي تبلور تجاربنا المعاشة، وبالتالي يعطينا القدرة على تخيّل وضعٍ مختلف. نركّز في النصّ على دور ممارسة استعادة الذاكرة الجمعية في التعامل مع مشاعر الخذلان بطريقةٍ لا تخلّ بفاعليتنا أو تجعلنا خاملين.
نعود في النصّ الخامس – «تخطّي الثنائيات في العمل الثوري» – لموضوع الثنائيات في العمل المقاوم، هذه المرّة من منظور التجربة في النشاط والعمل التحرّري. نتناول ثنائية المُحرِّر والمحرَّر ونتساءل حول المسؤولية في التحرير، فنتأمّل في ثنائية الخوف- الفعل، ونتساءل حول الدور الذي يلعبه (والدور الذي من الممكن أن يلعبه) الخوف في النشاط والفعل السياسيّ المقاوم. نواصل في هذا النصّ التأمّل في ثنائياتٍ إضافيّة في سياق الفعل المقاوم والتحرّري – السعادة والحزن، والفكاهة والألم، والأمل والخذلان – والتأمّل في المعرفة التي يمكن لنا تحصيلها عند تخطّي هذه الثنائيات.
يتمحور النصّ السادس – «الحتميّة والتنظيم والحوار» – حول الجوانب الجمعية- العلاقاتيّة والتنظيميّة في التحرير، وعلاقاتها مع نفسياتنا ومشاعرنا. يأتي هذا النصّ ليتأمل في التساؤل والتخوّف الذي نختبره كشعب منذ الهبّة، وهو التخوّف من تراجع طاقتها وخمودها واندثارها بسرعة. نتعامل في هذا النصّ مع مشاعر الحتميّة، واليقين واللايقين في سياق القهر والمواجهة، ونتأمّل في العوامل والأسباب التي تكمن خلف تخوّفنا من التنظيم والمفاهيم والأسئلة الجمعيّة- التنظيميّة، مثل التراكميّة والتنظيم واللجان والتركيز والأدوار، بالإضافة إلى السلطة وعلاقات القوّة، وخطورة الامتناع عن تناول هذه الجوانب. نعرض مفهوم التنظيم الحواري، كممارسةٍ لتجاوز الحتميّة ولتكوين تنظيم مختلف جذريّاً عن التنظيمات التقليدية والمهيمنة، ومتناغم مع مبادئنا وأهدافنا التحرّرية.
في النصّ السابع – «الجسد أداة تحريرنا – الاعتناء بالذات كممارسة جمعيّة تحرّرية » – نعود للجانب الذي يتموضع في أقصى درجات الشخصيّة والفردية – الجسد – لنقرأه كجسدٍ مسكون بأفراد ولكنّه مرتبط وغير منفصل عن السياق الجمعيّ والسياسيّ. ننطلق في هذا النصّ من نقد ثنائية الجسد- النفس ونقد المفهوم المسلّع لـ «الاعتناء الذاتي» كمفهومٍ يغذّي ويعزّز الرأسمالية، ويزيد من قهر المجموعات المستضعَفة، لنعرض توجّهاً مسيّساً وتحرّريّاً للاعتناء الذاتي، والذي يوسّع مفهوم الذات ليراها كذاتٍ جمعية، ليس فقط فردية، ويوسّع مفهوم الاعتناء ليعني ممارسةً تحرّريةً مفكّكة للاستعمار. تقودنا علاقة الاعتناء الذاتيّ- الجمعيّ بتفكيك الاستعمار، في ذواتنا والعمل الجمعيّ التحرّري، إلى مناقشة مفهوم الاعتناء الذاتيّ كواجبٍ أخلاقيّ عند المقهورين.
المراجع:
[1] Martin-Baro, I. (1994). Writings for a Liberation Psychology. In: Aron, A. & Corne, S. (eds.). (p. 27).
[2] Moane, G. (2003). Bridging the personal and the political: Practices for a Liberation Psychology. American Journal of Community Psychology, 31 (1-2), 91- 101.
[3] Lugones, M. (2007). Heterosexualism and the Colonial/Modern Gender System. Hypatia, 22(1), 186-209.
[4] Oyeronke, O. (2008). Visualizing The Body: Western Theories and African Subjects. In: A. Bailey & C.Cuomo (eds.). The Feminist Philosophy Reader.
[5] Lugones, M. (2010). Toward a Decolonial Feminism. Hypatia, 25(4), 742-759.
[6] أمثلة:
– Abu-Lughod, L. (2002). Do Muslim women really need saving? Anthropological reflections on cultural relativism and its others. American Anthropologist 104(3), 783-790.
– Bracke, S. (2012). From ‘saving women’ to ‘saving gays’: Rescue narratives and their dis/continuities. European Journal of Women’s Studies, 19(2), 237-252.
[7] Bermúdez, J.M., Muruthi,, B. A. & Jordan, L.S. (2016). Decolonizing Research Methods for Family Science: Creating Space at the Center. Journal of Family Theory & Review, 8, 192-206.
[8] Sefa Dei, G.J. Forward to: Decolonization and Anti-Colonial Praxis. Brill.
[9] Sium, A. Desai, C. & Ritskes, E. (2012). Towards the ‘tangible unknown’: Decolonization and the Indigenous futute. Decolonization: Indigeneity, Education & Society, 1, I-XIII.
[10] Lugones, M. (2010). Toward a Decolonial Feminism. Hypatia, 25(4), 742-759.
[11] Bhatia, S. (2020). Decolonizing psychology: Power, citizenship and identity, Psychoanalysis, Self and Context, 15(3), 257-266.
[12] Bacchetta, P., Jivraj, S, & Bakshi, S. (2020). Decolonial Sexualities: Paola Bacchetta in conversation with Suhraiya Juvraj and Sandeep Bakshi. Interventions, 22(4), 574-585. (p. 578)
[13] Bhatia, S. & Priya, K.R. (2018). Decolonizing culture: Euro-American psychology and the shaping of neoliberal selves in India. Theory & Psychology, 28(5), 645-668)
[14] للتوسع في مشكلات استخدام اللغة الحيادية والمنعزلة في تكوين المعرفة يمكن النظر إلى:
– Gorham, G. (1995). The concept of Truth in Feminist sciences. Hypatia, 10(3), 99-116.
– Haraway, D. (1988). Situated Knowledges: The Science Question in Feminism and the Privilege of Partial Perspective. Feminist Studies, 14(3), 575-599.