إشتركنا – وجاهياً ورقمياً – في مؤتمر المركز الفلسطيني للإرشاد بعنوان “قضايا العلاج والمعالج النفسي في فلسطين في ظل الاستعمار الاستيطاني الاسرائيلي” في 21 آذار 2023. قدّمنا مداخلة لورقة نقدية بعنوان “اشكاليات تيارات علم النفس المهيمنة في سياقنا: الهبة الشعبية كمثال”، وفيها تحدي فكري، عاطفي وأخلاقي لمنظومات وأخصائيين في علم النفس السائد والتقليدي.
ملخّص الورقة:
ننطلق في هذه الورقة من التفكير والتأمل في علم النفس المهمين- والذي يضع التجربة الأوروبيّة والأمريكية في المركز، ونفكر في تجارب اختبرناها مثل هبة أيار 2021 وما تلاها من أحداث، ونستلهم من تجارب وسياقات مجتمعات واقعة تحت وطأة القهر الاستعماري مثل مجتمعنا. نبدأ بمسح موجز لانتقادات أساسية تجاه التيارات المهيمنة في علم النفس ونعرض بعض الفرضيات الفكرية المسلّم بها والتي تؤطر الواقع والنفس الإنسانية وفق مفاهيم ومعايير استعمارية أوروبيّة وأمريكية غير متناغمة مع واقعنا – مثل فرضيات الفلسفة الوضعية، توجه الفردانية، اللا-تاريخية والنموذج الطبي. بالإضافة لهذه الفرضيات، يعتمد علم النفس والفكر الاستعماري على ثنائيات قطبية وهرمية، مثل ثنائية الجسد والنفس، الشعور والمنطق، الفرد والمجتمع، وبالتالي يحد من قدرتنا على اختبار واحتضان التركيبات الواقعية ومن فهمنا لأنفسنا والمباني التي تحيطنا. لا تتكون هذه التأطيرات بشكل تلقائي أو صدفة وهي ليست واقع موجود، بل هي إستراتيجيات مهيمنة ولها أهداف، وتستخدمها المؤسسات الاستعمارية في تعزيز وجودها وتأمين سيطرتها على أجساد ونفوس المجموعات والمجتمعات المقهورة، بهدف استمرار استحواذها على مواردنا. هذا التوظيف يكون بشكل مباشر من خلال السلطة التي يتخذها علم النفس والفروع الأكاديمية الأخرى على المعرفة وعلى الحقيقة، وبشكل غير مباشر من خلال تكوين التأطيرات التي تعمل على المستويات الرمزية والغير واعية عند المجتمعات المُستعمرة. في تركيز تيارات علم النفس المختلفة بشكلٍ مستمرّ على مفهوم التأقلم والتعايش مع القهر، بدلا من التحرّر منه، تكوِّنّا أفراد غير مهددين بل مربحين لمنظومات القهر.
علم النفس التحرري هو بمثابة توجه أو مجموعة من المبادئ التي تنطلق من انتقاد علم النفس كفرع أكاديمي متجذر في المنظومة الاستعمارية ويعمل كإحدى اذرعتها الأساسية، لبناء معرفة مفككة للاستعمار. بذلك تكوّن معرفة تنبثق وتنطلق من التجارب المعاشة للمجموعات المستعمَرة، وتعيد بناء السرديّات وتحليلات القهر بدلاً من إسقاط نماذج ومعارف جاهزة ومسبقة على المجموعات المقهورة. بالتالي، المعارف التي تنبثق من تفكيك الاستعمار لا تشكّل «معرفةً» واحدةً كونيةً لها شكل واحد وثابت. بالرغم من تعدد السياقات، تعمل المنظومات الاستعمارية بشكل شبيه بجميع السياقات وتوظف الاستراتيجيات ذاتها، وبالتالي تنتج سمات متشابهة عند المجموعات المقهورة المختلفة، والتي تؤثر بشكل عميق على نفسياتنا وعلاقاتنا، حتى إن كانت لا تتشابه تماما بين السياقات.
من خلال تأملنا في بعض سمات الهبة الشعبية سنة 2021، نعرض مفاهيم معينة في علم النفس التحرري مثل مفهوم الحتمية واسترجاع الذاكرة الجمعية وتكوين الوعي النقدي. بالاضافة لذلك، نتفكر من خلال نقد التأطير المتبّع لمفهوم “الصدمة”، في تأطيرات بديلة تنبثق عند تفكيكه، ليس بهدف التخلّص منه بل لتوظيفه وتوسيعه بطرق تتناغم مع واقعنا. تتطلب هذه التأطيرات أيضا تفكيك بعض الثنائيات الفكرية الاستعمارية التي يتأسس عليها علم النفس وسائر المنظومات التي تحيطنا وتبلور تجربتنا المعاشة – الأنا-الآخر، الجسد-النفس، الصحة-المرض، المعالج-المنتفع، النظري-العملي، الفرد-الجماعة. عند تجاوزنا لهذه اثنائيات نكتشف كنوز معرفية تتيح لنا التفكير في توجهات عامة وأولية ولبدائل ممكنة للتأطيرات والأعراف الاستعمارية المهيمنة، تكون أكثر تحررية وتعززنا كأفراد ومهنيات ومجتمع.
يتيح لنا اتّخاذ هذا الموقف المقاوم التمركز في الأسباب الجذريّة للأذية والصعوبات النفسيّة والعاطفيّة المرافقة، والتحوّل من مجرّد مشاهدين لتأثيرات القوّة والقهر إلى فعّالين في مواجهتها. بسبب تطبيع القهر والسلطوية والعنف، يبقى الألم النفسي الذي ينتج عنهم منفصل عن العلاقات والمباني الاجتماعية القاهرة، فيتم استدخاله ونسبه لذواتنا كسمة فردية. عند احتضان التركيبات في مشاعرنا وتقبل المشاعر التي نعتبرها سلبية بالإضافة لمشاعرنا الإيجابية، ونفهمها كردود فعل جمعية نختبرها نتيجة القهر، تتحول لمورد يزوّدنا في المعلومات والمعرفة النقدية والسياسيّة والتحررية.