أولًا: المقدّمة والسياق
منذ الهبّة الشعبيّة التي شهدناها في أيّار من عام 2021، ونحن نخوض نقاشاتٍ مختلفة حول التنظيم والتجارب التنظيميّة المختلفة التي نشأت في هذه الفترة. نتساءل في هذه النقاشات حول طرق تنظيم أنفسنا باعتبارنا أفرادًا ومجموعات فاعلة في المجتمع خلال نضالنا ضد جوانب الاستعمار المتعددة في شتّى أماكننا. نركّز في هذا النص على الحتميّة التي نختبرها كشعب مقهور في مقابل مكانة العمل والتفكير التنظيمي والحواري وأهمّيّتهم. في تفكيرنا حول الحتميّة والعمل على مواجهتها، نتأمّل في المشاعر التي تنشأ خلال محاولات التنظيم المواجِه للقهر وفي علاقاتها معه، مثل الحماس والنفور والشعور بالمسؤوليّة أو بالعدميّة أو بالتشاؤم أو بالأمل أو بعدم اليقين والاستقرار، وبالتالي نتفكر في تأثير هذه المشاعر وغيرها على رؤيتنا للتنظيم وتصورنا لأدوارنا فيه.
شأن سائر منظومات القهر، يحرص الاستعمار على الاستمرار في تحطيم القدرات التنظيميّة للمجتمعات المقهورة وتحويلهم إلى مجموعة أفراد معزولين لا روابط بينهم. ينتهج الاستعمار هذه الاستراتيجية تجنّبًا لإحقاق الدور الذي يمكن للتنظيم أن يلعبه في تمكين المجموعات المقهورة من تحطيم الاستعمار والقهر والتحرّر من استبداده. تبرز هذه الاستراتيجية في أمثلة متعدّدة، منها تذويتنا للقيم والمعايير الأورو-أمريكيّة التي تعرض الغرب على أنه في قمّة التحضّر ونموذج مثالي للتقدّم، وتذويت الخطاب الاستعماري الذي يدّعي أن المجتمع العربي «في طبيعته» مجتمع همجي أو بدائي، وأن مآزِقنا والصعوبات التي نواجهها تنبع من جوهرنا وطبيعتنا، ممّا يجعلنا نتصوّر مجتمعنا وظروف حياتنا جامدةً وغير قابلة للتغيير. مثال آخر هو إشغال الطبقات العاملة والمقهورة بقضايا ثانوية مفتعلة لتشتيتها وزيادة الأعباء التي تحملها، والتي تؤدّي للشعور بالعجز والضعف أمام الواقع. مثل تجربة الضغط والتوتر التي يألفها معظمنا، والتي تنبع من مكابدة الديون والفقر والصعوبات الاقتصادية الأخرى. مما يجعلنا نرزح تحت ضغط وتوتّر يولّدان بدورهما شعورًا بالعجز والفشل نسبةً لنموذج النجاح الاستعماري والرأسمالي. أي أنّ كل هذه الاستراتيجيات الاستعمارية تفرض تصوّرًا ذاتيًا عند المجموعات المقهورة بأنّ الفوضويّة وعدم الاستقرار (المادي، المعنوي، المجتمعي) الذي تعيشه هو مكوّن جوهري من طبيعتها الثقافية والنفسية، وأن هذا ما يجعلها غير قادرة على التنظيم والتحرير، وبالتالي يتعزّز لدى المجتمعات المضطهدة شعورٌ عميق باستحالة دحر الاستعمار.
يؤدّي استدخال هذه المشاعر والأفكار الحتمية والمفروضة علينا إلى إنكار قيمة التعلّم من التجارب السابقة للتحرر من منظومات القهر، أو التغاضي عن حاجتنا إليها، أو ربّما يصل بنا الأمر إلى اعتبارها تجارب فاشلة نستخدمها لإثبات عدم قدرتنا على التحرّر. هذه التجربة هي جزء من الحتمية، وهي حالة نفسيّة يكوّنها القهر عند المقهورين، نتعمق بها في القسم الثاني من هذا النص. بالرغم ممّا يحاول القهر إقناعنا به، نرى بشكل متكرّر على مدار التاريخ – في التجربة الفلسطينيّة وتجارب أخرى – أن المجتمعات المستعمَرة والمقهورة تهبّ في وجه القاهرين رغم كل الجهود المبذولة لإقناعها بعجزها عن تنظيم نفسها، وبعبثيّة التنظيم الذي، حتى وإن تحقّق، فلن يُفضي إلى المواجهة أو التحرير، نظرًا لاستحالتهما. لكي ننظر إلى هذه التجارب بمعزل عن عدسة الحتمية، ارتأينا أن نركّز على الخطابات والمشاعر التي اختبرناها منذ الهبّة، مثل الحماس والخوف والإحباط وانخفاض الطاقة والعدميّة والأمل وغيرها من المشاعر. سنفكّر ونتأمّل فيها في سياق التنظيم وعدمه، ونحاول التعلّم عن طريقة عمل الحتمية وعن طرقنا في مواجهتها، ونربط ما يحصل في الحاضر مع الماضي ومع المستقبل.
رغبتنا في كتابة هذا النص تنبع من أحد التخوفات المركزية التي سمعناها واختبرناها في فترة الهبّة والذي يتمثّل في تساؤلنا عن زمنيّتها، «هل هي مجرّد فترة وجيزة قبل أن تندثر؟» يفترض هذا التساؤل اضمحلالَ العمل والتنظيم أو موتهما مع اندثار الحماس. يمكننا أن نفكّر في النصيحة التقليديّة التي تُعطى للثائرات والثائرين بضرورة العودة إلى «الحياة الطبيعية» في مرحلة ما، والكفّ عن المواجهة المستمرّة لما تجلبه لهم من تعاسة وشعور بالفشل والوحدة. لا يمكننا التغاضي عن هذا الخطاب معتبرين أنّه يشير إلى قلق آتٍ من الفراغ، بل يجب التفكير في مصدر هذا القلق؛ ممّا نخاف؟ ولماذا؟ تناولنا في النصّ السابق مثلًا النظر لفئات عمريّة معيّنة من خلال عدسة الخذلان والتقاعس عن النشاط فقط، وهي عدسة تفترض أن الأشخاص فشلوا دون أن تتيح لنا التساؤل حول مصادر هذا الفشل، ممّا يحرمنا من فرصة التعلم من تجارب الخذلان هذه. تعزّز عدسة الخذلان بالاعتماد على تجاربنا السابقة شعورَ الحتميّة، وفقدان الإيمان في قدرتنا على التحرّر، وتقودنا إلى هذا القلق.
ثانيًا: الحتميّة، اليقين واللايقين في المواجهة
الحتميّة هي موقف وحالة نفسيّة تنبع من البُنى القاهرة وتتعزّز عبرها، وهي إحدى الطرق التي تستخدمها المجموعات المقهورة لفهم العالم الذي تختبره عالمًا خارجًا عن سيطرتها. في اختبار المقهورين للحياة اليومية كأنّها حياة يستحيل تغيير وضعهم فيها، يشعرون بعبثية المحاولة أصلًا. من المهم الحذر من اعتبار الحتمية في علاقة سببية مباشرة مع القهر، أو اعتبارها نوعًا معيّنًا من الشخصية أو الذاتيّة، يجب النظر إليها كونها أحد المواقف التي تشجعها وتغذيها البُنية الاجتماعية القاهرة، التي تنفي في الوقت ذاته وتجرّم مواقف أخرى يمكن أن يتّخذها المقهور [1]. لنفهم كيف تصبح الحتمية تذويتًا نفسيًا للقهر الاجتماعي، يذكّرنا مارتين-بارو [2] أنّ واقع البُنى المجتمعية ليس حقيقة طبيعيّة بل تاريخيّة؛ فالأيديولوجيا المهيمنة تلعب دورًا مركزيًا في تكوين هذه البُنى وتشكيل علاقات قوّة بنيويّة فيها. في هذه العلاقات والبُنى الاجتماعية، يَستدخِل المُستَعمَرُ القهرَ والاستعمار نفسيًّا وجسديًّا، أي يُغرس العنف الذي يمارسه القاهر في جسد الإنسان المقهور ونفسه على شكل ضغط وتوتر وشعور بالذنب أو التقصير والفشل. اختبار المقهورين تجربة الفشل وانعدام القيمة، مقارنة بالقاهر صاحب القوّة المطلقة والقادر على فعل ما يحلو له، يجذبهم في بعض الأحيان له ولقيمه وطرق حياته، ويدفعه لرؤية مجتمع القهر كنموذج مثاليّ للمجتمعات.
تحدد السلوكيات والنفسيات الحتمية التي تختبرها المجتمعات المقهورة تجربتهم بطريقة تخدم نظام القهر. يقول مارتين-بارو «من خلال موقفهم الحتمي وسلوكهم الخاضع، يساهم المقهورون في الحفاظ على شروط القهر» [3]. أي أنّ في نسب الأوضاع المعيشيّة للقضاء والقدر، إلى إرادة الله أو أي قوة طبيعية أو أزلية أخرى، وفي نسب سلوك القاهر والمقهور لعوامل فردية وشخصية لا بنيوية أو اجتماعية-اقتصادية، يحدّ المقهورون من قدرتهم على تطوير معرفة نقدية حول وضعهم والبُنى الاجتماعية التي تحيطهم وتبلور واقعهم. يمنعهم هذا من بناء هوية شخصية وجمعية واقعيّة تقوّي أصحابها وتعززهم، ومن إيجاد معنى لحياتهم وتطويره. تعزّز السلطة بدورها هذه الأنماط النفسيّة عند المقهورين للحفاظ على قوتها وتوطيدها. فتقبُّل الحتمية يعني في الواقع تقبُّل النظام الاجتماعي القاهر وتطبيعه على أنّه حقيقة أزليّة وأبديّة. يقول فريري إن طبيعة السيطرة تكمن في تقسيمها للإنسان وخلق ازدواجيّة في الذات:
«جزء يمتثل لواقع القهر وآخر يظل خارج واقع الإنسان ممتثلًا لتلك القوة التي يتوهّم أنه لا يستطيع لها ردًا. وهكذا يتقسّم الإنسان بين ماضٍ يتشابه مع الحاضر والمستقبل ولا أمل عنده فهو في ظل هذا الواقع لا يستطيع أن يرى نفسه في صيرورة متّصلة ولذلك فهو لا يفكّر في مستقبل يبنيه مع الجماعة» [4]
إن عدم تطوير المجتمعات المقهورة لوعي نقدي ينتبه للتناقضات التي تعيشها هذه المجتمعات، يتيح للنفسيات والمشاعر الحتمية أن تحصر سلوكها بما يخدم نظام القهر. تعزّز الحتميّة النظام القائم وتعيد بناءه من خلال وضع المقهورين في مواقف الانسحاب والقبول بشروط البُنى الاجتماعية ونسبها للطبيعة. بالتوازي مع هذا، تخدم الحتميّة منظومات القهر أيضًا من خلال تقليص حاجة الطبقات الحاكمة للّجوء لأساليب إجبار وقمع مباشرة. هذا ما يجعل الحتميّة إحدى الآليات الأيديولوجيّة المركزيّة للقهر. تتمثّل الحتمية بإيجاز في أن تنسب المجموعات المقهورة ما تواجهه من صعوبات وفشل في التقدم والتغيير للقضاء والقدر أو للمصير أو لطبيعتهم ذاتها وجوهرهم، بدلًا من نسبها للبُنى الاجتماعية القاهرة. الحتمية هي آلية ناجعة بالأساس، لأنها تعتمد على حقيقة جزئيّة، وهي الصعوبة الموضوعية والفشل المتكرر الذي تختبره المجموعات المقهورة في تغيير أوضاعها الاجتماعية. إنّ الحتميّة بهذا الأسلوب «تشخّص العارض صحيحًا ولكن تُخطِئ في تشخيص مصدره» [5].
نعرف من تجربتنا وسياقنا صعوبة ألّا نذوّت الشعور بعدم الإيمان في التغيير الحقيقي وألّا نذوّت خيبات أمل الأجيال الماضية وخيبات أملنا من تجاربنا السابقة في المواجهة. بالرغم من هذا، تُرينا هبّة أيار 2021 وغيرها من الأحداث في تاريخنا أنّ مجتمعنا يستطيع أن ينشط ويقاوم ويواجه رغم الحتميّة، أي أننا، بالتوازي مع المقاومة المستمرة للا-يقين الموضوعي في الحاضر، نقاوم خيبات أمل الماضي مع أخذ الاحتمالية الكبيرة لفشل مخططاتنا ومحاولاتنا بعين الاعتبار. الخذلان والفشل اللذين اختبرناهما أحيانًا عند محاولاتنا في المواجهة والتغيير، واللذين اختبرتهما الأجيال السابقة، نختبرهما بالتوازي مع الأمل والتفاؤل. من المهم ألّا نشعر بوجود تناقض بين الخذلان والأمل، فالأمل متجدّد، كما يعلّمنا فيريري حين يقول إنّه «لما كان النقد الواعي متضمنا في العمل فإن الأمل والثقة كفيلان بأن يقودا الإنسان لتجاوز الصعاب في حقبة تاريخية لتبدأ صعاب جديدة يحاول تجاوزها بأمل جديد» [6].
أحد الأسئلة المألوفة التي يطرحها النشطاء على نشطاء آخرين، «المتحمسين» منهم تحديدًا، هو سؤال «كيف تستطيع/ين الاستمرار بالمواجهة في ظل هذه الظروف الصعبة والمحبطة؟» يحتوي هذا السؤال في جوهره على افتراض بأنّ التحرر هو حدث أو إنجاز نقطي، وسيلة يعرفها ويمتلكها «غير المحبط»، ولا يمتلكها النشطاء الآخرون. هذا التساؤل يرى النتيجة النهائية كأنها حقيقة مطلقة، ويلغي العمل الكثيف الذي يقوم به النشطاء خلف الكواليس، قبل لحظة المواجهة الظاهرة وخلالها وبعدها. في هذه الهبة، رأينا كيفية الاستمرار في العمل والتخطيط للمستقبل واختبرناهما، بالرغم من معرفتنا بإمكانيّة فشل مخططاتنا. أي بدلًا من محاولة الوصول إلى التحرير باعتباره هدفًا نهائيًا، وبدلًا من تجاوز الإحباط والحتمية شرطًا للعمل والنشاط، اختبرنا العمل نفسه باعتباره ممارسةً للتحرير، دون الاتّكاء على علاقته المباشرة بمدى نجاحنا في تحقيق أهدافنا العينية. اللايقين الذي نعيشه هو واقع ناتج عن الاستعمار وعدم سيادتنا على البلاد ومواردها وعدم قدرتنا على تقرير المصير. تعتبر الكثير من القراءات في علم النفس [7] اللايقين وعدم الاستقرار مرحلة على الشعوب والمجتمعات تخطَيها لكي تستطيع تنظيم صفوفها وحياتها (بالمنظور الفردي). ولكنّنا نطرح هنا أننا اختبرنا منذ الهبّة الأمل والتنظيم خلال المرحلة ذاتها التي كنّا نعايش فيها اللايقين وعدم الاستقرار.
من المهم الامتناع عن تأطير المقهورين في ثنائية جديدة: الحتمي والمتجاوز للحتمية. فالحتمية تظهر بدرجات متفاوتة وتنوّع كبير. أي أننا لا يمكن أن نتوقع أن تكون هناك حتمية متجانسة أو تامة عند المقهورين جميعهم. يتيح هذا لنا التفكير بالأساليب التي تمكنّنا من العبور على طيف الحتمية والابتعاد عن الحتمية المطلقة. وذلك لأن تجاوز الحتمية المطلقة يعتبر أول خطوة نحو التحرّر من وطأة القهر: «إنّ النضال من أجل الأنسنة يصبح ذا جدوى فقط عندما ندرك أن اللاأنسنة برغم انها ظاهرة في التاريخ فهي لا تشكل حتمية مصيرية، فهي مجرد ظاهرة مؤقتة تعكس الظلم المكرس بالقوة في أيدي القاهرين ويمارسه هؤلاء ضد المقهورين، ولما كان هذا الإخلال يحول دون التحقيق الكامل لأنسنة المقهورين فسرعان ما يبدأ هؤلاء – تحت وطأة الاستلاب – الإحساس بحاجتهم إلى النضال ضد أولئك الذين حالوا دون ممارستهم لوجودهم الإنساني الكامل» [8].
لا نستطيع التخلص من الحتمية بواسطة تغيير الفرد أو تغيير الشروط الاجتماعية التي تحيط به فحسب، بل علينا أن نهدف إلى تغيير العلاقة بين الشخص وعالمه، مما يتطلب تغييرًا شخصيًّا ومجتمعيًّا. فلا يكفي تغيير المسلّمات التي يؤمن بها المقهور ومواقفه وقيمه التي استدخلها من القهر حول طبيعة العالم والحياة، بل يحتاج الشخص أيضًا إلى تجربة حقيقية يمارس فيها بالفعل تغيير عالمه وتحديد مصيره. هذه الصيرورة الجدلية التي تساعد المقهورين على التعامل مع الحتمية تشمل ثلاث سيرورات مركزية: أولًا، استرجاع الذاكرة التاريخية الذي يمدّنا بأول حجر أساس لتخطي الحتمية، وذلك لمساهمته في تجاوز التركيز المفرط على الحاضر، وفي إتاحة إمكانيّة تخيّل المستقبل واسترجاع الذاكرة الجمعية. ثانيًا، طموح المقهورين ورغبتهم في خدمة مصالحهم وتلبية احتياجاتهم بواسطة التنظيم المجتمعي. وثالثًا، التغيير الثوري في البُنى السياسية والاقتصادية نتيجة لبلورة وعي المقهورين لأنفسهم كطبقة ونتيجة لممارستهم الطبقية (من خلال التنظيم الحواري) [9].
ثالثًا: التنظيم المخيف
منذ اشتعال هبَة أيار 2021، شهدنا التفافًا شعبيًا واسعًا في شتى أنحاء فلسطين حول العمل المشترك والتحرير. تحقّق العديد من الأفعال والأعمال والنشاطات، التي جاءت مرفقةً بتساؤلات حول الاستمرارية. يشعر العديد منّا بإرهاق ما، ونتساءل بالنسبة للخطوات والأشكال القادمة التي يجب أن يتّخذها النشاط. فمن جهة، يتملّكنا خوف من إمكانيَة خمود الهبّة بعد مرور وضع الطوارئ المتأزم، ومن جهة أخرى، نشعر بإنهاك من التكتيكات والاستراتيجيات التنظيمية التي نعرفها. إضافة للإنهاك والخذلان من التجارب التنظيمية التي اختبرناها، نشعر بالخذلان من تجاربنا الماضية وتجارب من سبقنا من الأجيال، والتي حتى وإن لم تخلُ من التنظيم، فقد فشلت في تحقيق أهدافها، أو أصبحت متماهية مع الواقع وخسرت نزعتها الثورية. تجعلنا هذه العوامل وغيرها ننفر من التنظيم ومن اللغة التنظيمية. هناك تعطّش لتكتيكات وأعمال جديدة ومختلفة تمامًا عن الذي نعرفه، من النوع الذي يتيح لنا الاستمرارية في النشاط دون العودة لمواقف التشققات الأيديولوجية، والخلافات الشخصية، والعمل الفردي أو الشللي.
يؤدي بنا الرفض لاسترجاع تكتيكات وتجارب سابقة نرى فيها النماذج الوحيدة للتنظيمات، إلى رفض فكرة التنظيم المجتمعي ورفض لغة التنظيم كلّيًّا. إضافة إلى ذلك، في سياقنا وما يكوّنه من بنى اجتماعية (رأسمالية) تحيطنا، يُتوقّع منا أن نكيّف أنفسنا ونطيع وأن «نسمع الكلمة» في كلّ مؤسسة أو سياق اجتماعي نتواجد به، ولا نُعطى فرص للمبادرة واتّخاذ القرار. يودي بنا الحرمان من ممارسة الفاعليّة والمبادرة إلى التخوّف من المسؤولية المتجذّرة في اتخاذ القرارات، وبالذات في سياق التنظيم الاجتماعي والمواجهة. تبعثر جميع هذه العوامل فترات الهبات الشعبية وتقصرها على النشاطات المحلية، مع أن أهدافها تصب في الأهداف الجمعية.
تكمن الإشكاليّة في هذا الاندفاع الأولي الذي رأينا مثله في الهبّة، في أنّه، بكلمات فانون، «يعتنق مبدأ ((الفورية)). وتجيء الواقعية اليومية العملية فتحلّ محل اندفاعات الأمس. إن دروس الوقائع، وضحايا التهور، تحمل على إعادة النظر في الأمر، وتفسير الأحداث تفسيرًا جديدًا شاملًا» [10]. هذا ما يحثنا على فهم أهمية بلورة وعي جمعي وطبقي يصحّح التشتّت والتبعثر، وأهمية التنظيم المجتمعي الذي يشكّل قاعدة هذا الوعي، وذلك لأنّ «الجماهير تصمد ثلاثة أيام وربما ثلاثة شهور باستعمال الحقد المتراكم في صدورها، ولكنك لا تستطيع أن تفوز بالنصر في حرب تحريرية، وأن تحطم أداة العدو الرهيبة، وأن تبدل الناس، إذا أنت أغفلت رفع مستوى الوعي عند المقاتل. ليس يكفيك تأجُّج الحماسة، ولا عنف الشجاعة، ولا جمال الشعارات» [11].
تتيح لنا موقعياتنا المختلفة أفعالًا وطرقًا مختلفة للمساهمة في المجهود الجمعي، وذلك على المستوى ذاته من الأهميّة والضّرورة. خلال الهبّة مورست أفعال ظاهرة أكثر من غيرها على المستوى البصري، مثل التواجد في المظاهرات، ولكنّ أشكال العمل والفعل تعددت. عبّر عن ذلك أحد الخطابات التي تردّد فيها «أنّ كلٌّ يعمل في موقعه أو من مكانه». أي أنّ لكلّ منا دوره الخاصّ، وإن اختلف تبعًا لخبراتنا، وامتيازاتنا ومحددات حياتنا. في مجال علم النفس، تطوّع العديد للدعم النفسي، وجهًا لوجه أو في مجموعات، أو عبر الإنترنت. تطوعت محاميات ومحامين للدفاع عن المعتقلين السياسيين ولتقديم النصح. تطوع البعض لتنظيم فعاليات للأطفال تذكّرهم بالهوية الوطنية، وتهدف إلى إشراكهم في تكوين ملامح هذه الفترة. برزت تجارب عدّة لكتاب وثّقوا هذه الفترة في كتاباتهم. ونشأت مبادرات لأرشفة المواد البصرية والمطبوعة وغيرها لتوثيق هذه الهبّة وما تلاها من نشاط. كلّ هذه الأدوار أساسية في مواجهة قهر الاستعمار، ولكنّنا كثيرًا ما نميل لفهمها بمعزل عن بعضها، كما لو أنّها نشأت عن صدفة وحاجة آنية، وبالتالي نقلق من زوالها عند انتهاء الظرف الآني وحالة «الطوارئ» المتأزمة.
في تأمّلاتنا للأفعال والنشاطات المواجِهة، والتي عادة ما يُنظر إليها باعتبارها مبعثرة وعشوائية، يمكننا أن نلاحظ العلاقات التي تربط بينها، والتراكمية التي تنبع منها ومن سائر الانتفاضات والهبّات رجوعًا إلى النكبة وما قبلها. هذا لأنّ التراكميّة مرتبطة مع استرجاع الذاكرة الجمعيّة من خلال ربطها للحاضر مع الماضي، وبالتالي يتيح القدرة على تخيّل المستقبل والتفكير التنظيمي والاستراتيجي. نرى في كتاباتنا وحديثنا عن الهبّة الشعبيّة أننا لا نناقش فقط ما حدث في أيّار 2021، فهناك أمثلة عديدة على مبادرات وعمل تطوعي وتفكير جمعي تشكل في تلك الفترة وبقي لمدة بعدها، مثل الاستمرار في فعاليات لإشراك الأطفال في المسيرة التاريخية والسياسية (شمس فلسطين، فلسطين إحنا)، بالإضافة إلى استمرار عمل المتطوعات في مجال الدعم المجتمعي والنفسي الذي يقدّمنه للأسَر والأشخاص الذين اعتُقلوا، إلى جانب إعادة إحياء مهرجانات ثقافية مثل أيام الجولان الثقافية. على الرغم من أن الكثيرين منّا اختبروا هبّة أيار 2021 كحدث فجائي وعفوي، فهي بالفعل نتاج عملٍ تراكمي تنطوي عليه ذاكرتنا الجمعية (طويلة الأمد وقصيرة الأمد). من المهم في تصوّرنا لمفهوم «المراكمة» تجنب الخطّيّة، لما تزرعه فينا من بلبلة وقلق يتمثل في السؤال عمّا إذا كانت المراكمة بالمكان الصحيح وفيما لو كانت خطوة ما من خطواتها «صحيحة» أم لا. هذا التصوّر يتأسس على انحيازنا لتصورات المنظومات القاهرة لمفاهيم المراكمة والنجاح والفشل، ويخلق حالات من التشكيك بالعمل وانخفاض طاقة النشاط والتنظيم. الأعمال التأسيسية وطويلة المدى تكون شفافة في هذا التصوّر، وبالتالي لا تُعتَبَر مؤشرًا على استمرارية الهبّة والمواجهة. يتطلب المنظور النقدي والثوري للمراكمة التقييم الدائم خلال العمل في محاولة للتعلّم منه وبلورته، تقييمًا لا يختزل التجربة في نقطة زمنية معينة في الحاضر أو المستقبل القريب، بل ينظر إليها بتركيباتها، آخذًا بعين الاعتبار ماضيها الجمعي ومستقبلها المتخيّل، تقييمًا يفهم «ثمار» النشاط باعتبارها نتائج تتعلق بالظروف الموضوعية والمتغيرة، وبالتالي لا تتبع بالضرورة تصوراتنا الأوليّة لها، وهذا لا يجعلها دليلًا على فشلنا أو فشل استراتيجياتنا.
يتناقض الجمود الكامن في الحتمية بالضرورة مع التوجّه الجذري للعمل السياسي والمواجهة بصفتهما دائميّ التغيير، ويتناقض مع التوجه الذي يرى العملية الثورية ممارسةً دائمة نتعلم عنها وعن قيادتها من خلالها. «العملية الثورية […] هي عملية ديناميكية، وهذه الصفة وحدها هي التي تمكن القادة والجماهير معًا من تعلم أساليب الحوار وأساليب استخدام السلطة، فالأشخاص يتعلمون السباحة في الماء ولا يتعلمونها بالجلوس في المكتبات» [12]. يفرز هذا الجمود في الحتمية خوفًا من التنظيم نختبره بكثافة، خصيصًا في هذه الفترات. فاللغة التنظيمية غريبة علينا، كجماعة تعوّدت أن تخضع لتعليمات أصحاب السلطة وألّا تبادر في اتّخاذ قرارات، وكجماعة تشك في قدرتها على العمل وتحقيق أهدافها.
في الهبّة والمواجهة الجمعية، نشأ لدينا شعورٌ مستمر بحماس شديد تجاه التجربة التي نختبرها كأنّها جديدة، مما جعلنا نرغب في تخليصها من أي سمة «قديمة» من سمات التجارب السابقة التي خذلنا منها. يستدعي هذا الحماس «المفرط» حمايةً مفرطة للمشاريع من تأثيرات التجارب «السابقة»، ويستنكر الحاجة للمراكمة على التجارب السابقة، وكأننا نحاول في كل مرة اختراع العجل من جديد كما لو أن بمقدورنا العمل بفراغ مطلق. كلّ هذا يؤدي في نهاية المطاف إلى الشلليّة وإحباط النشاط.
بالإضافة إلى النفور من التنظيم والخوف منه بسبب الخذلان من التجارب التي فشلت سابقًا، ترتبط هذه المشاعر أيضًا بالفكر الثنائي والقطبي الذي يحصرنا في إمكانيتين فقط: إمّا التنظيم بشكله البيروقراطي المتحجر، أو عدم التنظيم بشكله العشوائي المبعثر. يمنعنا هذا من التفكير في أنواع وأشكال التنظيم الأخرى الممكنة، وفي أهمية الفكر التنظيمي بحدّ ذاته. يجعلنا هذا الربط الحتمي في تصوراتنا بين مفهوم التنظيم وبين الشكل الذي نعرفه للتنظيمات، مثل نموذج الأحزاب، نخاف حتى من كلمات ومصطلحات ومفاهيم تنظيمية مثل التنظيم، اللجان، التركيز، الأدوار والسلطة. يمنعنا تفاقم الخوف من التفكير في أشكال مختلفة ومتجدّدة من الممكن أن تتّخذها هذه المفاهيم في حراكاتنا ونشاطاتنا المواجِهة.
يدفعنا هذا التفكير القطبي إلى تصوّرٍ أحاديٍّ للتنظيم، تكون الفوضى والعشوائيّة بديله الوحيد. يخيف هذا بعضنا من «الفراغ» المتخيّل عند التنازل عن الأشكال التنظيمية المألوفة. نحن نرى في المألوف المهيمن مهما كان، مأمنًا أكثر ممّا يمكن أن يأتي به اللا مألوف. هذا ما يفسّر تخوّف الكثيرين عند حصول الثورات العربية السابقة – مصر، تونس، ليبيا وسواها- من الأنظمة التي قد تأتي بعد تلك التي أُطيح بها، أو التخوّف المستقبلي من الفوضى أو البدائل السيئة التي قد تتشكّل إن تم حلّ السلطة الفلسطينية أو إسقاط نظام الأسد مثلًا. بالمقابل، يمكن لهذا النفور والخوف من الأشكال التنظيمية المألوفة أن يدفعنا للتركيز المفرط على الأسئلة التنظيمية، وأن يجعل التنظيم جلّ اهتمام العمل السياسي، فيتحوّل التنظيم بذلك من أداة إلى غاية، مما قد يجلب بُنى بيروقراطية ثقيلة تفشِل الحراكات في نشاطها السياسي.
في الواقع، لا يؤدّي رفض المفاهيم التنظيمية مثل التراتبية والمركزية والأدوار، ورفض التعامل معها واتخاذ القرارات بخصوصها، إلى اختفائها، بل تبقى موجودة وذات أثر على الحراكات والنشاط. لذلك علينا أن نضعها في مخزون المواضيع والأهداف التي تُطرح بهدف العمل عليها، لأنّنا طالما نتجاهل المحادثات -التي عادة تكون صعبة- حولها أو نتجنبها، تبقى منكرة وتأثيراتها خارجة عن السيطرة ومنعزلة عن الأهداف الأيديولوجيّة والاستراتيجيّة للحراك. في أساس أيّ حراك أو تنظيم مجتمعي يحاول أن ينشط، توجد علاقات بين الأشخاص الناشطة مع مجتمعها ومع بعضها البعض. بالتالي، يتمحور جزء من العمل السياسي والمواجه حول العمل على العلاقات والمشاعر داخل الحراك. كثيرًا ما نسمع خطابًا يعارض ربط هذه الجوانب مع جوانب مواجهة الاستعمار، وينادي لاتّخاذ مسؤولية حصرية على أنفسنا وعلاقاتنا وعلى مجتمعنا بوصفه «همجيًا» أو غير منظّم بطبيعته. يساهم هذا الخطاب في تفادي خوض الأسئلة والمحادثات المحرجة والصعبة حول مشاعرنا وعلاقاتنا في النشاط، وعلاقتها مع القهر والمواجَهة، ويساهم في تعزيز الهرمية بين العمل (صاحب الأولويّة) المواجِه للبُنى الفعلية والاقتصادية للاستعمار في «الخارج»، وبين العمل المواجِه لهذه البُنى في نفسياتنا وعلاقاتنا «داخل» الحراك والنشاط. يساهم هذا الخطاب أيضًا في تكريس الهرمية الذكورية بين الأفعال التي يعتبر جزءٌ منها ثوريّ ومواجه، والآخر غير مواجِه. فالأفعال التي لا تكون ظاهرة أو بارزة مثل معظم العمل على الأبعاد النفسيّة والعلاقاتيّة داخل النشاط والمواجهة، والتفكير والتأمل في الأبعاد التنظيمية والاستراتيجية للمواجهة، كثيرًا ما تكون أفعالًا ثورية ومواجِهة وتخدم استمرارية المواجهة والهباّت والبناء رغم الإنهاك الذي تشعره المجموعات المقهورة.
في إنكارنا وتفادينا للمواجهة الداخلية بيننا كأولاد مجتمع مقهور وكحراكات وتحالفات مختلفة تتخلّله، تظهر الأنماط النفسية والعلاقاتيّة بأشكالها المهيمنة، وتتوزع الأدوار بطرق غير محكية تعيد بناء الأساليب التقليدية والمألوفة، وتتكوّن أنماط المركزيّة والتراتبية المتسلطة والذكورية المجتمعية من جديد داخل التنظيم. يتحول الحراك لجسم متسلط جامد وصلب ويفقد ديناميكيته وثوريّته، وبالتالي قدرته على ملائمة نفسه للواقع المتغير وللاحتياجات والإمكانيات والمحدوديات المتغيّرة التي تنبع منه. هذا بدوره يعيدنا إلى الخذلان من التجربة والنفور من التجارب المستقبلية.
يقترح فيريري أن السلطة (لا التسلط) هي حجر أساس في الحريّة والتحرّر، أي أنّه لا يمكننا في الحقيقة التخلص التام من السلطة بذاتها، لأن «السلطة الحقّة هي التي لا تقع في تناقض المواجهة مع الحرية لأنها في حقيقتها حرّية قد تحولت إلى سلطة. وكما لا تستطيع السلطة الحقّة أن توجد بدون حرية فإن التسلط لا يمكن له أن يبسط نفوذه إلّا إذا أنكر على الناس حرّياتهم، وإذاً ففي نظرية العمل الحواري فإن التنظيم يحتاج إلى السلطة حتى لا يكون تسلطا ويحتاج إلى الحرية حتى لا يكون فوضى. إنه عملية تعليمية عالية يمارس فيها القادة والناس معًا السلطة والحرية التي تمكنهم من تغيير العالم الذي يحيط بهم» [13].
لكن حقيقة «أن كل الأشخاص يتبادلون التحرير في عمل جماعي» [14] تعني أن على المقهورين تحمل «المسؤولية الثوريّة والاطلاع بأعباء التنسيق خلال عمليّة النضال» [15]. أي أن علينا مواجهة الخوف والنفور من التنظيم وعلينا أن نفكّكه، ونعترف بحاجتنا في هذه المرحلة للتنظيم المجتمعي. في تفكيرنا النقدي والمفكّك في أشكال التنظيم التي نريدها، تتاح لنا إمكانيّة أن نتخيل خلق علاقات لا تكرّس الأنماط المهيمنة التي ننفر منها، ونمارسها وتخلق تراتبيات تعزز رؤية تحرّرية من القهر، بدلًا من تكريسه. يعتبر هذا التنظيم حواريًا، ويخدِم أهدافنا التحرّرية.
رابعًا: التنظيم الحواري كتجاوز للحتمية
كما ذكرنا أعلاه، العمل السياسي الذي لا يتضمّن عملًا حواريًا يعود ويكرّس المنظومات القامعة مجددًا، كما رأينا في تجربة أحزابنا الفلسطينية حيث تحجّرت فكريًّا ولم تعد تحاكي الجماهير أو تلائمها. أما العمل والتنظيم الحواري الذي يتضمن النقاش والتأمل والتفكير المشترك، بالإضافة للشفافية ووضوح الأدوار، فمن المحتمل ألّا يعيد إنتاج أشكال قيادة وعمل سياسي قمعيّة. يشاركنا فيريري أنّ على الناشطين والقادة الدخول مع الجماهير في «علاقة حوارية يكون محورها آراؤهم عن العالم. وسندرك من هذا الحوار أن آراءهم عن العالم هي صميم خبرتهم ووعيهم به. وأما العمل السياسي والتعليمي الذي لا ينتبه إلى هذه الحقيقة فسيقلص نفسه في إطار المفهوم البنكي أو الوعظي (العمل اللاحواري) وبالتالي فلن يتمكن من حل قضايا التقدم والتغيير» [16].
بما أن الحوار هو أسلوب المواجهة الذي يغير به الأشخاص عالمهم، فيجب أن يشمل بعض الخصائص المركزيّة [17]. أحد هذه العوامل هو التعاون، وعدم اقتصار أداء العمل على البعض وسقوطه عن الباقين، بل أن يحافظ على صفة جمعية تتشاركها الجماهير وأبناء المجتمع بالرغم من اختلاف اختصاصاتهم، بل وعن طريق توظيف هذا الاختلاف وإدراك أهميته. ففي العمل الحواري «لا يوجد هنالك امتلاك باسم الثورة […] التعاون يقود المجتمع الحواري إلى النظر في الواقع لمواجهة تحدياته، ذلك أن مواجهة هذه التحديات هي مسئولية المجتمع الحواري لأجل تطوير الواقع» [18].
تشمل خصائص العمل الحواري الناجح أيضًا استناده إلى حبٍّ أساسي تجاه الآخرين والشعب، فالحب ضروري لبدء الحوار. بالإضافة إلى التواضع الذي يجنّب الأشخاص اعتبار أنفسهم مختلفين عن الباقين أو ادّعاءهم امتلاك المعرفة والحقيقة التي يعلمونها لأبناء الشعب أو يعظونهم بها. كما تُعد الثقة بالأشخاص وقدرتهم على الخلق والإبداع عنصرًا أساسيًا إضافيًا، فالثقة بالإنسان هي شرط ضروري للحوار الناجح الذي يتطلب أيضًا الصدق بين المتحاورين، ويكرّس العلاقة الأفقية بينهم. إضافة إلى ذلك، لا يمكن أن يمارس الحوار دون الأمل، فالأمل هو الذي يدفع الإنسان للبحث مع بقية الأشخاص عن الأفضل، «فاليأس هو نوع من الصمت وإنكار للعالم بل هروب من مواجهته. […] إذا لم يؤمل المتحاورون في نتيجة حوارهم ستصاب مجهوداتهم بالخواء والعقم والبيروقراطية والملل» [19].
كما ذكرنا بإيجاز أعلاه، حجر الأساس الأولي والعنصر الأساسي للتنظيم الحواري هو الفكر النقدي الذي يشخّص العلاقة بين الأشخاص وعالمهم، «التفكير الذي يرى الحقائق كحركة تطورية غير منفصلة عن العمل هو التفكير الذي يستشيره الحوار المجدي. فالتفكير المجدي يختلف عن التفكير السطحي الذي يرى في العمل التأريخي مجرد استعادة للماضي، ذلك أن المفكر السطحي يولى اهتمامه الأكبر للتأقلم مع الحاضر أما المفكر الناقد فيرى في المستقبل عملية تطوّر مستمرة من أجل تحقيق إنسانية الأشخاص وحريّتهم» [20].
بما أن القهر ليس رأيًا أو شعورًا شخصيًا، بل حقيقة موضوعية متجذّرة في أنظمة سياسية واقتصادية موضوعية، من الضروري أن يطوّر المقهورون فهمًا موضوعيًا وحقيقيًا حول التناقضات التي يعيشونها وأسباب قهرهم وطبيعته، ليستطيعوا أن يتحرروا منه. دون هذا الفهم لن يعرف المقهورون ما عليهم أن يواجهوه، وأي الوسائل ستفيدهم في هذه المواجهة، ولن يطوروا لأنفسهم الوعي الطبقي والجمعي الضروري لتمكينهم من تنظيم أنفسهم كشعب مقهور وقوة ثورية [21].
المراجع:
[1] Ratner, C. (2019). Psychology’s contribution to socio-cultural, political, and individual emancipation. Pargrave. (Ch2 – Martin-Baro’s Liberation Psychology).
[2] Martin-Baro, I. (1994). Writings for a Liberation Psychology. In: Aron, A. & Corne, S. (eds.).
[3] Martin-Baro, I. (1994). Writings for a Liberation Psychology. In: Aron, A. & Corne, S. (eds.). (p. 216).
[4] فرايري، ب. (1968). تعليم المقهورين. (ترجمة د. نورعوض). (ص. 129).
[5] Martin-Baro, I. (1994). Writings for a Liberation Psychology. In: Aron, A. & Corne, S. (eds.) (p. 211).
[6] فرايري، ب. (1968). تعليم المقهورين. (ترجمة د. نورعوض). (ص. 75).
[7] من الأمثلة على هذه القراءات:
– Massazza, A., Kienzler, H., Al-Mitwalli, S., Tamimi, N., & Giacaman, R. (2022). The association between uncertainty and mental health: a scoping review of the quantitative literature. Journal of Mental Health, 1-12.
– Afifi, T. D., Afifi, W. A., Merrill, A. F., & Nimah, N. (2016). ‘Fractured communities’: Uncertainty, stress, and (a lack of) communal coping in Palestinian refugee camps. Journal of Applied Communication Research, 44(4), 343-361.
[8] فرايري، ب. (1968). تعليم المقهورين. (ترجمة د. نورعوض). (ص.28-27).
[9] Martin-Baro, I. (1994). Writings for a Liberation Psychology. In: Aron, A. & Corne, S. (eds.)
[10] فانون، ف. (1961). معذّبو الأرض. (ترجمة د. الدروبي ود. الأتاسي). (ص. 113).
[11] فانون، ف. (1961). معذّبو الأرض. (ترجمة د. الدروبي ود. الأتاسي). (ص. 115).
[12]فرايري، ب. (1968). تعليم المقهورين. (ترجمة د. نورعوض). (ص. 102).
[13] فرايري، ب. (1968). تعليم المقهورين. (ترجمة د. نورعوض). (ص. 133).
[14] فرايري، ب. (1968). تعليم المقهورين. (ترجمة د. نورعوض). (ص. 99).
[15] فرايري، ب. (1968). تعليم المقهورين. (ترجمة د. نورعوض). (ص. 94).
[16] فرايري، ب. (1968). تعليم المقهورين. (ترجمة د. نورعوض). (ص. 73).
[17] فرايري، ب. (1968). تعليم المقهورين. (ترجمة د. نورعوض). (ص. 68-71).
[18] فرايري، ب. (1968). تعليم المقهورين. (ترجمة د. نورعوض). (ص. 125).
[19] فرايري، ب. (1968). تعليم المقهورين. (ترجمة د. نورعوض). (ص. 70).
[20] فرايري، ب. (1968). تعليم المقهورين. (ترجمة د. نورعوض). (ص. 70-71).
[21] Ratner, C. (2019). Psychology’s contribution to socio-cultural, political, and individual emancipation. Pargrave. (Ch2 – Martin-Baro’s Liberation Psychology).