قائمة المحتويات
مقدمة
نعود بعد خمس سنوات لخوض حوار حول المحاولة الثانية لتنفيذ مشروع ما يسمّى "انتخابات المجالس المحليّة" في الجولان السوري المحتل. استمرت النقاشات حول هذا المشروع طوال السنوات الماضية منذ عام 2018، ولكن كانت أبرز النقاشات العامّة في حوارية ضمن مهرجان "أيام الجولان الثقافيّة 3" في تموز 2023، وتضمنت تقديم مجموعة نشطاء فاعلين في قضايا الشأن العام مداخلات متنوعة، كلّ من وجهة نظره، عن أضرار الانتخابات والسياق التاريخي والسياسي في الجولان والعمق الفلسطيني. تبع هذه المداخلات والمشاركات حوار مفتوح ظهرت فيه أسئلة مركبّة لم يتم التعمق فيها، إما لضيق الوقت وكونها نشاط عيني للمراكمة والبناء عليه لاحقاً، أو لكونها أسئلة تحتاج لعمل اجتماعي وجماعي يهدف إلى بناء إجابات عليها من خلال المسارات المختلفة المطلوبة. بالرغم من هذا، أثارت هذه الأسئلة الفضول للتعمق والخوض فيها وفي النقاط التي لم يتم أو لا يتم طرحها في النقاشات الحاليّة التي تدور حول انتخابات المجالس المحلية، إن كان في الأحاديث التي تدور بيننا داخل البيوت وبين مجموعات الأصدقاء، أو على مواقع التواصل الاجتماعي والمساحات العامة الأخرى. لهذا، بدأنا العمل على هذه المادة والبحث حول السياق التاريخي والسياسي لمشروع "انتخابات المجالس المحلية" في الجولان، والنظر لتجارب مختلفة حول العالم تم تطبيق فيها ما يسمى "الحكم غير المباشر"، وما آلت إليه الأمور في هذه التجارب، وكيف يمكننا الاستفادة من هذه المعرفة لفهم تركيبات واقعنا في الجولان وتخيّل واقع بديل.
من المهم الإشارة إلى بعض الملاحظات عن المراجع والأدبيات التي اعتمدنا عليها خلال كتابة هذه المادة: أولًا، لا ندعي أن السياق والظروف في هذه المناطق والتجارب المختلفة مطابق لسياق وظروف الجولان السوري المحتل. لهذا، لم نستحضر الأبحاث والتجارب لاستخدامها كغطاءٍ يهدف إلى إعطاء الشرعيّة للمحتوى والأفكار المطروحة، إنما نشجع قراءة هذه المادة بأعين نقدية تتيح استدراك قصر التحليل إن لاحظتم ذلك. هذه الأدبيات هي بعض المواد المتاحة التي من الممكن الاستفادة منها وربما مقارنتها مع تجاربنا، وقد تثير الأسئلة التي من المهم طرحها في نقاشاتنا والبحث عن إجابات ملائمة لنا. ثانيًا، من المهم الانتباه إلى أن بعض هذه المراجع والمواد مصدرها مؤسسات استعماريّة ترى الواقع من منظورها الاستعماري وتهدف لخدمة مصالحها، وبالتالي يجب الحذر من اعتمادها كمواد تحمل "حقائق" نهائية أو حتمية، والتنبّه إلى أن استخدامنا لها في بعض الحالات كان لغرض عرض رؤية المستعمر للشعوب المستعمرة أو لفهم طريقة عمل المنظومة، وماهيّة الاحصائيّات والتحليلات والمصطلحات التي يعتمدونها، ووفقا لهذا بناء القدرة على مواجهتها. ثالثًا، لفت انتباهنا خلال مراجعة الأدبيّات، استخدامها المتكرر للدراسات الكميّة أو تلك التي تحتوي على احصائيّات وأرقام، وتوظيف ذلك لكسب الشرعيّة وإضفاء لمسة علميّة على مقولات المستعمرين. لذلك لم نتعامل خلال البحث مع هذه الإحصائيات والجداول كمؤشر ومعيار لاختيارنا لها، إنما تم اختيارها وفق ما تحتويه من مقولات أو أمثلة ترتبط بالتحليل. وجدنا في هذه الأدبيات أمثلة إضافية للخطابات والاستراتيجيات الاستعمارية التي تُمارَس علينا، ولاحظنا أنها تشكل مثالًا حيًا لإحدى آليات القهر الاستعماري الأساسية - وهي المعرفة الأكاديمية نفسها ودورها في خلق "الآخر" المُستَعمَر.أخيرًا، تم كتابة هذه المادة بهدف المساهمة في تكوين قاعدة لتكثيف الأفكار، ولكن نهدف أيضا أن تكون بمثابة دعوة للمهتمين لتحويل المعرفة والأفكار المطروحة فيها إلى ورشات أو مواد بصرية أخرى مثل الفيديوهات وغيرها تبني على هذه المعرفة أو على نقدها.
1.دوافع كتابة المادة
أرّقت الأسئلة التي تخص أساليب ومناهج حكم الأشخاص الذين يقعون تحت الاحتلال الإمبراطوري وحكمه العسكري جميع الإمبراطوريات والأنظمة الاستعمارية الكبرى عبر التاريخ، من الامبراطورية الصينية إلى الرومانية والبريطانيّة وصولا للاتحاد السوفيتي، وتطورت من هذه الأسئلة ومن البحث عن إجابات عليها نماذج متعددة لإدارة الأشخاص والمجتمعات والتعامل معهم (08). تشكّلت ثلاث طرق أساسية بشكل عام لتمكين القوى المستعمِرة والمُستَعمِرين من حكم الأراضي المُستعمرة، وإخضاع السكان الأصليين الذين اعتادوا على حكمهم الذاتي: تنص الطريقة الأولى على تدمير المجتمعات المحليّة والإبادة الجماعية للشعوب الأصليّة التي تسكن الأرض المستهدفة بالاستعمار، وبعدها الإستيطان الواسع فيها لفرض الأمر الواقع وتصبح ضمن أراضي المستعمرة دون معارضة. أما الطريقة الثانية، والتي سميّت ب"الحكم المباشر"، فتعمل على إرسال مجموعات من المستعمرين ليحكموا الشعوب المُستَعمَرة ويديروا مصالح الدولة والكيان المستعمِر في سرقة موارد المُستعمرات، بينما تترك إدارة شؤونها وأعمالها الإنتاجية اليومية للسكان الأصليين. أخيرًا، الطريقة الثالثة، السيطرة من خلال الحكم غير المباشر أو الحكم المحلي، مما يعني السماح للسكان الأصليين بالاستمرار في حكم أنفسهم ولكن فقط ضمن إطار ولائهم للدولة المُستعمِرة، أي من خلال خلق قيادة من ال "نُخَب" تكون بمثابة أقلية ودّية وصديقة وموالية للدولة المستَعمِرة، والتي تحكم الأغلبية - بقية الشعب المُستعمَر. تستمد هذه الأقلية سلطتها وقوتها وقدرتها على السيطرة على الأغلبية من الكيان المستَعمِر الدخيل ذاته، وبالتالي من مصلحتها أن تحافظ على هذا الواقع وأن تخدم نظام الاستعمار القاهر وتكون موالية له (12,13).
من المهم توضيح أن هذا التقسيم بين وسائل الحكم والسيطرة هو نظريّ ومجرّد، أما في الواقع غالبا ما نرى خليطًا من طرق الحكم في نفس المُستَعمَرة أو المنطقة الجغرافيّة - ما يُسمى بالاستعمار الهجين(13). في حالة الجولان مثلا، مورست تاريخيا ثلاث طرق للسيطرة والحكم - بداية من التهجير القسري والاستيلاء على الأراضي، وبعدها الحكم العسكري والمباشر تجاه القرى المتبقية، والمحاولة للعبور إلى الحكم المحلي أو غير المباشر (من خلال الانتخابات للمجالس المحلية) في السنوات الأخيرة وإعطاء المجالس المحلية شرعيّة ما. بالإضافة إلى ذلك، عندما نتأمل في الحكم غير المباشر في سياق الجولان، نتأمل في الأساسات المبدئية والفكرية الكامنة فيه، وفي علاقتها مع الأنظمة المختلفة في سياقنا ومنها "المجالس المحلية"، وفي مبادئها وأهدافها والمصالح التي جاءت لتخدمها، ولا نحاول أن نقارن هذا الحكم مع أي نظام تاريخي عيني أو مع أي نموذج كلاسيكي معيّن للحكم غير المباشر.
سيطرت على الخطابات الأكاديمية والمعرفيّة بين أوساط المؤسسين للمنظومات الاستعمارية منذ تأسيسها وحتى يومنا هذا، عدة أسئلة تخص مناهج وأهداف الاستعمار من الجانب النظري ومن الجانب العملي والتطبيقي، وكوّنت نقاشات حادة حول حسنات وسيئات الحكم المباشر والحكم غير المباشر، تحديدا بعد "السباق/التدافع على أفريقيا"[1]. أحد الأسئلة المركزية في معظم التجارب الاستعمارية كان كيفية تكوين النُخَب الأقلية الحاكمة من السكان المحليين وأساليب معاملتهم، ليصبحوا طبقة تخدم مصلحة المستعمر(08).
لنفهم واقعنا بشكل أكثر موضوعي، من المهم أن نتعلّم من تجارب شعوب أُخرى وقعت تحت حكم استعماري ومن الاستراتيجيات التي مورست عليهم، حيث أن الاستراتيجيات الاستعمارية هي نتاج مسار تعلّم وتأقلم من تجارب مارستها المنظومة الاستعمارية سابقا في مناطق جغرافية مختلفة، وتستمر بتطويرها لتحسين استخداماتها مستقبلاً(06). في ظل هذه النقاشات والمحاولات الاستعمارية، من المفاجئ أننا لا نملك الكثير من المعلومات عن الحكم غير المباشر وأين تم تطبيقه وبأي شكل وإلى أي درجة، خصوصا وأن الادبيات تفتقر لمسح ممنهج وواضح لأنماط الحكم هذه(08). إن مراجعة تاريخ المنظومة الاستعمارية في مناطق مختلفة في العالم مهم وضروري، لأنه يمكّننا من فهم النظام السياسي القائم من خلال تتبع جذوره وكيف تم تطبيقه في مناطقنا وما هي التعديلات الخاصة تجاهنا، هذا الفهم هو قاعدة ضرورية لأي مواجهة تحررية وجذرية مستقبلًا.
عند سؤالنا من أين نبدأ التفكير فيما يخص واقعنا اليوم في سياق ظروف الاستعمار الاستيطاني والفكري والثقافي، يبدأ التفكير من تخيّل المستقبل المستقر والآمن، مستقبل يحمل الازدهار والهدوء كأفكار أساسيّة وغيرها الكثير من الحقوق والتطلعات للعيش في مجتمعات نتبادل فيها الرعاية وتلبية الحاجات. ولكن كيف يمكننا كسب هذه الأهداف أو السعي إليها؟ وما هي الأفكار والتصوّرات التي تراودنا عندما نسمع مصطلحات مثل المستقبل والازدهار وما إلى ذلك؟ وكيف تدخل مسألة الانتخابات في هذا السياق أو لتحقيق هذه الأهداف؟ هل يمكننا خوض الانتخابات لتحقيق مكاسب ما دون خسارات كبيرة في جوانب وقضايا أخرى أكثر أهمية من المكاسب المفترضة، أم أنها مبنية مسبقا لإخضاعنا والسيطرة علينا، وبالتالي من الغير الممكن أن تعود علينا بالمنفعة؟
2.استراتيجيات الاستعمار للحكم غير المباشر
2.1. الحكم غير المباشر- تطور نظري وعملي مستديم
عندما نتعمق في "الحكم غير المباشر" كأحد الوسائل لإدارة المنظومة الاستعماريّة وحكمها للشعوب التي تعتبرها وفق تعريفها "متخلفة”(09)، نكتشف أنه مفهوم ضبابي استخدم لوصف أنظمة حكم استعمارية متعددة الأشكال. الفكرة الأساسية التي يشير إليها هذا المفهوم هي السيطرة على المجتمع المحلي من خلال توظيف ممنهج لمؤسساته التقليدية وعاداته الثقافية القائمة مسبقا(12). لطالما تلاعبت القوة الاستعمارية في الحكم المحلي واستمالت السكان الأصليين والمتنفذين والزعامات التقليدية لخدمة مصالح الاستعمار، ولكن ما يميز نماذج الحكم غير المباشر كان منهجة هذه النماذج وقوننتها كأنها علميّة بحت، وإعطاء المنظومة شرعيتها بالاستعمار من خلال إضفاء صبغات أخلاقيّة لها على اعتبار أن أهدافها - نشر التطوّر والحضارة والتنوّر والحرية للعالم - أهدافًا سامية(12). نرى في بعض النماذج الاستعماريّة الإفريقية مثلاً أن المستعمرين توصّلوا لنتيجة أنه دون تدخلهم وفرض الحكم غير المباشر سوف تنهار مجتمعات السكان الأصليين، أو أنهم سوف يبقون مجرد مجموعة أشخاص متخلفين دون قيادة أو نظام حكم يدير شؤونهم(12). وفق هذه الأداة تُمارَس سلطة الاستعمار بشكل غير مباشر تجاه المُستَعمَر و/أو ليس من خلال إبادته والسلطة المباشرة على الأرض المستعمرة (أول طريقتين ذكروا أعلاه)، بل من خلال خلق "مُختار" أو رئيس[2] أو طبقة من الـ"نخب" وإعطائهم السيادة الحصرية على السلطة التنفيذية(09).
منذ أواخر الحملات الاستعماريّة الإمبرياليّة في العالم وبالتحديد الحملات الاستعماريّة البريطانيّة في الهند والقارة الأفريقيّة، تم بناء وتطوير مفاهيم ونماذج للحكم الغير المباشر والترويج لها واعتبارها الأداة الأنجع لاستعمار الشعوب(09). لم يكن نموذج الحكم غير المباشر النموذج المهيمن دائما وشهد تحديّات عديدة عبر تاريخه، مثل تحديّات المنافسة مع نموذج الاستعمار الاستيطاني. كان نموذج الاستعمار الاستيطاني - أي الطريقة الأولى وهي إبادة الشعوب المحلية وسلب أراضيها ومواردها، هو النموذج المهيمن في محطّات تاريخيّة مختلفة عبر التاريخ، ولكنه أيضا واجه صعوبات وتحدّيات مثل الصعوبة البنيويّة في ضمان وتطبيق قوانين حقوق الإنسان الدوليّة وحقوق الشعوب المُستعمرة، تحديداً بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية. ساهم هذا في زيادة شعبية الحكم غير المباشر، والذي تألق في استخدام الأغطية وتجميل واقع الأفراد والمجتمع/ات عندما يتعلّق الأمر بحقوق المستعمَرين وجودة حياتهم بهدف الحفاظ على الأمر الواقع والتهرّب من المساءلة. بالإضافة لهذا، لم يهيمن أحد أشكال الحكم غير المباشر على وجه التحديد، وإنما تعددت تجسّداته في المستعمرات والأزمنة المختلفة، وكان هناك اختلافات كبيرة بين رؤية علماء الأنثروبولوجيا (الاستعماريين) بالنسبة للنمط المثالي لإدارة المستعمرات وبين رؤية المسؤولين الفعليين عن الإدارة والتطبيق. الاختلافات في تصوّر أو تخيّل شكل الحكم كانت حاضرة حتى داخل نفس المنطقة، حيث كان فهم السكان المحليين (الأغلبية من المجموعات الأصلانية) لهذا الحكم يختلف عن تصور الرؤساء المحليين (الأقليات والنخب من المجموعات الأصلانية) ويختلف عن تصور القوة الاستعمارية والمستعمِرين أنفسهم (01).
جاء تقسيم طرق السيطرة لأهداف نظرية، أما على أرض الواقع عادةً ما نرى خليط من آليات السيطرة والاستعمار وتحديداً في عصر الاستعمار المتأخر. برز مثلاً في افريقيا خليط بين منهاج حكم مباشر وغير مباشر بعد أن بدأت المستعمرات البريطانية في أفريقيا تتشكل، شهدت بداية القرن العشرين تحوّلات نوعية واعتماد أكبر على مناهج حكم غير مباشر، بالتوازي مع الحكم المباشر. كان هناك في البداية تقسيم الحكم حسب المنطقة - مدينة أو قرية وبلدة ريفيّة، وعلى أساس هذه التقسيمات وغيرها كانت تقسم المجتمعات المحلية لأقلية مواطنين من جهة ممن يحملون جنسيات وينالون الحقوق ويعتبرون المجموعة المُتَحضرة من السكّان الأصليين، ومن الجهة الأخرى من هم ليسوا مواطنين، أي معظم المجتمعات المحلية المُستَعمَرة، ويخضعون لسلطة وحكم استعماري ويعاملون وفق أعراف ومعايير مختلفة. توسع عبر التاريخ الاعتماد على نماذج الحكم غير المباشر، مما خلق واقعاً فيه الكثير من السكان يعيشون تحت حكم نظام قانوني ومجتمعي مزدوج - من جهة سلطة قانون الدولة المُستَعمَرة لمواضيع معينة وتحديداً ما يخص الأراضي والقوانين الجنائية أو قضايا بين أحد السكان المحليين وأحد المستوطنين، ومن جهة أخرى حكم القوانين المحلية التي تضعها النُخَب أو المشايخ التي تعينها القوة المستعمرة والتي تهتم غالباً في التشريعات والقضايا المجتمعية أو القضايا المدنية شكاوى داخلية بين السكان المحليين(02,03,11).
بالرغم من جميع هذه التركيبات والتوترات والصدامات، نشأت نماذج الحكم غير المباشر في بدايات القرن العشرين وتزايَد تبنيها لدى دول مختلفة لعدّة أسباب. مثلاً، برزت حاجة ماسة وضرورية في أوساط المفكرين الاستعماريين وهي خفض تكلفة سيطرتهم على المُستَعمَرات، فقاموا بفرض قوانين تجبر المستعمرات على تمويل ذاتها من خلال جباية الضرائب من السكّان المحليّين وغيرها من الطرق، وتم تطبيق هذه الوسيلة بأشكال متعددة على اعتبارها طريقة للاستعمار المقتصد والرخيص(01,07,09,12). بينما تكون في الحكم المباشر جميع الأعباء الاقتصاديّة ومسؤولية الحكم المحلي ملقاة على الدولة المستعمِرة، تكاليف الحكم غير المباشر تقتصر على موظفين مستعمِرين قلائل في مناصب أساسية، وتكاليف مؤقته أو لمرة واحدة مثل إنشاء مبنى ما، أما باقي التكاليف ورواتب الرؤساء المحليين وما إلى ذلك من ميزانيات وخدمات تغطيها الميزانيات التي يتم جبايتها من السكان. إن نظام جباية الضرائب من السكان الأصليين كان ميزة شائعة في جميع الحالات الاستعمارية البريطانية مثلاً، والهدف كان تمويل مباني الحكم المحلي واخضاعهم بشكل غير مباشر، والسيطرة عليهم من خلال الحكم المحلي، في حين تتحكم المنظومة في الرؤساء المحليين، وتجهز على الموارد دون دفع أي تكاليف إضافيّة(07). من المهم التوضيح أنه بالنسبة للمستعمِر، لم تكن جباية الضرائب لأهداف اقتصادية فقط، بل إنها تمثل أيضاً ممارسة سلطة وسيادة على الشعوب المستعمرة وقياداتها ومواردها وسلبها للقوة(07). سبب إضافي لكون نماذج الحكم المحلية أو غير المباشرة مغرية للدول المستعمِرة هو في إدارة المناطق الريفيّة التي لم يتم اختيارها كمناطق استيطانيّة لأسباب مختلفة (مثل عدم ملاءمة مناخها وجغرافيتها، أو عدم رغبة المستوطنين في السكن فيها)، وبالتالي يأتي الحكم غير المباشر في هذه الحالة كوسيلة بديلة عن الاستعمار الاستيطاني للسيطرة على موارد واقتصاد المناطق المستعمرة (من خلال توظيف المستعمَرين أنفسهم للقيام بهذه العملية المهمة)(04,13). لهذه الأسباب وغيرها، تبنت مع مرور الوقت العديد من الدول المستعمرة (مثل فرنسا والبرتغال وبلجيكا) نماذج الحكم غير المباشر المختلفة وطورتها ولاءمتها مع سياقات وخصوصيّات المناطق التي تستعمرها(04). لا يمكن أيضا تجاهل إسهامات السكان المحلّيين بتشكيل هذه النماذج وفق ما يتلاءم مع واقعهم وتعريفاتهم (قدر الإمكان لأنه ضمن مشروع استعماري)(06).
يبني المستعمر في الحكم غير المباشر فجوات بنيوية في القوانين ليستطيع إسقاط أو التحكم في القرارات المحلية التي لا تخدم مصالحه(01)، كما يعمل على السيطرة الاقتصادية والهيمنة على المرافق الاجتماعية وممارسة استراتيجيات ومشاريع الاستعمار الثقافي (من خلال مشروع التحضر). إذن، كان أحد أهداف الحكم غير المباشر تاريخياً "مساعدة الأصلاني على أن يصبح أصلاني أفضل" بطريقة يضمن فيها المستعمر عدم نشوء معارضة أو تهديد لحكمه من ذات المجموعة التي يسيطر عليها(12). في ظل التعددية الكبيرة في أشكال الحكم غير المباشر ورؤية المفكرين الاستعماريين، لم يكن الحكم غير المباشر بحد ذاته كنمط إدارة هو القاسم المشترك بين هذه الأفكار والسياسات، بل كان المشترك هو العدو - المُستَعمَر الذي يجب إدارته، والمصلحة والأهداف المشتركة - ازدياد الربح وتخفيض المصاريف(01)، وهو سلب حق تقرير المصير أو امتلاك الخيار والقرار، فالحكم غير المباشر يعمل بالأساس من خلال السيطرة وليس من أجل “الإدارة والتطوير”، ولهذا مايتلقاه السكان من حقوق وخدمات تكون محددة مسبقا وفق المناطق الجغرافية التي ينتمي لها الأشخاص أو معايير عنصريّة مثل الديانة أو العرق. السيطرة على السكان المحلّيين والتحكم بهم بهدف تسخيرهم وجرّهم لخدمة المشروع الاستعماري، والإجهاز على موارد واقتصاد المنطقة وغيرها الكثير من الأهداف التي تصبو للسيطرة(03,04).
تتكوّن أنظمة القانون والمحاسبة والعقاب في الحكم غير المباشر وفق ادعاء أنها تتأسس على تقاليد المجتمع المستعمَر والسكان المحليين وعاداتهم الثقافية، ويكون هذا بمثابة آلية تُستخدم لإسكات الرافضين للمشاريع الإستعماريّة والاستغلال والنهب، تحت ذريعة التعدّي على “العادات والتقاليد” مثلاً، فمن يوالي النظام القائم يُعتبر من “سكان البلد الحقيقيين المحافظين على العادات والتقاليد” مقابل “السكّان الغير حقيقيين” (الذين يعارضون موازين القوى المجتمعية) (08). يغطي هذا الإدعاء على الدور الأساسي الذي تلعبه سلطات الاستعمار في تكوين هذه الأنظمة وفي "خلق" التقاليد التي تنسب للمجتمعات المحليّة من خلال الهندسة المجتمعية وتشويه التاريخ. جزء من الأسئلة التي كانت تطرح على الحكومات المستعمرة في تعيين المشايخ والرؤساء المحليين مثلاً، كان عن "تعليمهم" التقاليد وأنظمة الحكم المحلية. لهذا السبب، يؤطّر بعض المفكرين العبور من الحكم المباشر للحكم غير المباشر على أنه "ولادة الأصلاني" - مسار يتضمّن تأطير "الشعب الأصلاني" وعاداته وأنظمة حكمه، ليستطيع المستعمر بعد ذلك أن يبني المعرفة حول السيطرة على هذه الشعوب وتوظيف أنظمتها الاجتماعية (04,09,10,12).
2.2. موقعية الجولان وظروفه
تبلغ مساحة الجولان 1860 كيلومتراً مربعاً، احتلت إسرائيل 1260 كيلومتراً مربعاً منه خلال عدوانها الذي شنّته عام 1967، هجّرت سكانه (باستثناء خمس قرى في شمال الجولان) ودمرت البلدات والمزارع لمنع السكان من العودة إليها[3]. وشرعت مباشرةً في بناء مستوطناتها على أنقاض القرى والمزارع المدمرة ليسكنها المستوطنون من ضباط الجيش وعائلاتهم أو من "المهاجرين الجدد" الذين يختارون الجولان كوجهة استيطانهم. وبذلك، تمت السيطرة على الجولان وموارده من خلال استيلاء المستعمِرين عليها. أما في أقصى شمال الجولان، فكان للمنظومة الاستعمارية العديد من المخططات للسيطرة على المنطقة وإدارة الحكم فيها والتي تم إفشالها عبر التاريخ. على سبيل المثال وليس الحصر، محاولة إقامة دولة درزية في سنوات السبعينات[4] كمنطقة عازلة في حال لم تنجح محاولات التطبيع مع الدولة السورية، تمتد هذه الدولة من جنوب لبنان إلى شمال الجولان وامتداداً إلى جبل العرب والجنوب السوري. منذ الاحتلال عام 1967، لم يتوقف الاحتلال عن الدفع بمشروعه الاستيطاني في الجولان أو السيطرة على ثرواته الطبيعية وسرقتها[5].
نلاحظ بعد إفشال مخططات مثل مخطط الدولة الدرزيّة في شمال الجولان، لجوء الاحتلال إلى حلول سياسيّة أخرى كان بدايتها إعلان ضم الجولان لدولة الاحتلال وتطبيق القانون الإسرائيلي على ساكنيه عام 1981، القرار الذي رفضه وأدانه المجتمع الدولي. وبعدها شرع ببناء وإنشاء المؤسسات ومباني الحكم المختلفة التي تخدم مصالحه وتهيئ لفرض السيطرة السياسية والاقتصادية والتحكم في منظومات الحكم المحليّة. تزايد عدد المستوطنات منذ احتلال الجولان عام 1967 وحتى يومنا هذا بشكل كبير كل منها لها مجالس وبلديات، أما في شمال الجولان، تحديدًا في القرى السوريّة الخمس المتبقية مجدل شمس ومسعدة وبقعاثا وعين قنية والغجر، فاستمر الحكم العسكري في فترة الاحتلال الأولى، وبعدها تم إنشاء المجالس المحليّة كآلية حكم محليّة تضمن مصالح الاحتلال وتكون بمثابة الذراع التنفيذية في المنطقة ولكن يترأسها مستعمِرين بتعيين مباشر من الحاكم العسكري أو غيره من مؤسسات حكوميّة. كان هذا حتى إلى أن بدأت منظومة الاحتلال بتعيين أشخاص من السكان المحليين لأدوار مثل رئيس المجلس وقائمته الإدارية، وبعد تعيين شخصين على مدار السنوات حتى عام 2018، حين قامت سلطات الاستعمار بمحاولة إضفاء الشرعيّة على آليات الحكم المحليّة المتمثلة بالمجالس المحليّة، من خلال إجراء انتخابات للمجالس المحليّة للمرة الأولى منذ احتلاله عام 1967. فشلت هذه المحاولة حيث انسحب جميع المرشحين في قرية مسعدة وتم تعيين مستوطن لتولي منصب رئيس المجلس المحلي، أما في بقعاثا، سحب جميع المرشحين ترشيحهم باستثناء الرئيس الحالي الذي تم تعيينه لاحقاً بالتزكية، ولم تتجاوز نسبة التصويت في انتخابات مجدل شمس وعين قنية ال 2٪. واليوم نحن مقبلين على جولة انتخابات جديدة للمجالس المحلية في الجولان عام 2024.
سيطر الاحتلال على المدارس في الجولان وغيّر نظام التعليم منذ احتلاله، ولم يسمح بإنشاء مستشفى وأبقى السكان متعلقين في مستشفيات صفد وطبريا كأقرب مستشفيات. أما على صعيد الجامعات، فأيضا يمكننا ملاحظة وجود العديد من المراكز الصغيرة التابعة لكليات وجامعات عالمية أو من خارج الجولان، وهذا لإجبار السكان على التعلق في مسارهم الأكاديمي في مؤسسات المستعمرين، ومنع عملية استقلال ونمو المعرفة لدى السكان المحليين بشكل مستقل عن الأكاديميا الإسرائيلية ونظام التعليم الإسرائيلي. نرى أيضا إنشاء المحكمة الدينيّة الدرزية من قبل سلطات الاحتلال عام 1972 وتم نقلها مؤخرًا إلى قرية بقعاثا، حيث لم تكن هذه المحكمة قائمة قبل احتلال الجولان. وفق تعريفات الدولة، تُدرج المحاكم الدينيّة منذ عام 2001 ضمن صلاحيات وزارة القضاء، ويمكن ملاحظة محدوديّة صلاحيّاتها التي تقتصر على البت في قضايا الزواج والطلاق وحضانة الأطفال والميراث وغيرها من القضايا المثقلة، كما صلاحيات وسلطة على فرض العقاب، مثل إصدار أوامر بمنع مغادرة البلاد (بينما يتفرغ المستوطنون لإدارة قضايا الموارد والأراضي). أما بما يخص مراكز الشرطة، فكانت السلطات قد بنت محطة شرطة صغيرة لها في قرية مسعدة، ولكن عادة يتم تحويل الحالات الحرجة إلى محطات أخرى أكبر مثل محطة مستوطنة كتسرين أو مستعمرة كريات شمونة. وإلى جانب محطة الشرطة بنيت العديد من المؤسسات التي تقدم خدمات لجميع القرى مثل الإطفائية وخدمات تجديد الهويّات وجوازات السفر المؤقتة التي يحملها الجولانيون. تم لاحقاً إنشاء بعض الأقسام بشكل مستقل لكل قرية، فمثلاً يمكن اليوم تجديد الجوازات والهويات في مبنى المجلس المحلي في مجدل شمس ولا حاجة للسفر إلى مسعدة، كما تم إنشاء فرعين ل"بريد إسرائيل" في مسعدة ومجدل شمس يديرها بعض من أفراد منظومة الحكم المحلي، مثل رئيس الطائفة الروحي في الجولان (وهو منصب حكومي خلقته منظومة الاستعمار) . أما بخصوص البنوك، وبشكل ملحوظ وليس بمحض الصدفة، يوجد في الجولان في القرى الخمسة، فرع بنك واحد وهو بنك العمال والذي يحتكر ويدير معظم الحسابات الشخصية وحسابات أعمال الجولانيين.
2.3. المجالس المحلية كاستراتيجية استعمارية
بما أن الحكم غير المباشر يعتمد في جوهره على وجود المُستعمِر والمُستَعمر - سوف نتعمق في هذا البند والبنود التي تليه في تحليل الخطابات والأفكار المحليّة السائدة في قرى شمال الجولان عن الحكم المحلي في ظل تجارب ونماذج الحكم غير المباشر المذكورة أعلاه، وفي العدسات والخطابات والصحف التابعة للمنظومة الحاكمة والتي تقرأ من خلالها سكّان شمال الجولان ممن لم يهجروا عام 1967، بهدف تكوين تصوّرات لعلاقتنا مع منظومات الحكم المحلي (المجلس المحلي والانتخابات).
نرى في مسح الأدبيات وتطور النماذج التاريخيّة للحكم الغير المباشر، أن أحد أكثر النقاط المركزية والجوهريّة في طريقة عمل الحكم غير المباشر هي اعتماده على السكان المحليين كشركاء في المشروع الاستعماري، واعتماده بالأساس يكون على عمليّة خداع ممنهجة من خلال ابتلاع خطابات وثقافة وأدوات السكَان المحليين وتحويلها ضدّهم، ولهذا من المهم فهم وتفكيك هذه الاستراتيجيات التي تمارسها المنظومة الحاكمة بهدف تفادي الوقوع في هذه المطبات ومعرفة انتقاء ما يخدم مصالحنا كشعوب تحت حكم منظومة استعمارية وما يعمل ضد هذه المصالح تحت غطاء "إنساني" أو "حضاري" وغيرها (مثل خطاب المواطنة). نرى أيضا أن عدم المساهمة في خدمة مصالح المستعمر لا يقتصر على مقاطعة مشروع انتخابات أو غيره، إنما يدخل في جميع تفاصيل الحياة اليومية من البنى الإجتماعيّة والسلطة المحليّة الحاكمة، إلى الظروف الاقتصادية للسكان ومدى مشاركتهم في موارد ونتاج الأرض، ولهذا يجب تفكيك جميع البنى القائمة بهدف وقف المشاركة في مشاريع المنظومة الاستعماريّة، وبناء القدرة على تخيّل بديل لا يعيد بناء هذه النماذج أو اختراع نماذج أخرى "خاصة" بالمنطقة.
يمكننا مثلا استشعار محاولة زج سكّان الجولان السوريّون في المشروع الاستعماري في محاولة طمس الحقائق بين أوساط الأجيال الشابة ونشر الأكاذيب التي تدّعي أن الإنتخاب والإعتراف بسلطة المجالس المحليّة بشكل عام هو شأن السكان الذين لم يهجّروا عام 1967 فقط، مثلا في النظرة التي تهدف لتذويت أن الإشارة إلى الجولان تعني الإشارة إلى القرى الخمس في شماله فقط (أو حتى القرى الأربع لأن ظروف قرية الغجر تختلف) وعدم الإكتراث لما حدث في وسط وجنوب الجولان وما مصير المهجرين من سكانه الأصليين، ومثل ما حدث في مشروع الانتخابات الذي حاول الاحتلال تنفيذه عام 2018 (ولكنه فشل) بهدف محو أية رواية أو نقاش عن ما يقارب نصف مليون مهجر، وحقيقة منعهم من حقهم بالعودة إلى بيوتهم وأراضيهم. لو نجح المشروع، لكنا قد اشتركنا في مشروع الانتخابات التابع للمنظومة الاستعماريّة من خلال إضفاء الشرعية والختم على صك تنازلنا عن معارضتنا للاحتلال ومشاريعه، ودفعنا باسم جميع سكّان الجولان بهذا المشروع الذي يسعى لإنهاء قضية الجولان السوري المحتل، وتجاهل جميع قضايا ومعاناة سكان الجولان المهجرين والباقين منذ عام 1967. ولهذا من الضروري متابعة فهم وتحليل هذه الآليات لأن الانتخابات كانت أحد الأمثلة المستخدمة ولكنها بالتأكيد ليست المحاولة أو المشروع الاستعماري الأول ولن يكون الأخير. في هذا السياق، يمكننا النظر إلى مشروع انتخابات المجالس المحلّية في قرى الجولان والمحاولة الأولى لإجرائه عام 2018 والآن إعادة اجرائه عام 2024، على أنه مشروع حكم محلي استعماري، له العديد من السمات والأسس المستوحاة من نماذج الحكم غير المباشر الأوروبيّة التاريخيّة التي سبقته والتي كنا قد ذكرناها في مسح الأدبيّات.
بدايةً، لعل من المفيد أن نتفق على بعض التعريفات الأساسية التي تخص المجلس المحلي. تعتمد دولة الاحتلال في محاولة تقديم الخدمات والحكم بنجاعة في الوقت الحالي على نظامي حكم-المركزي والمحلي، بحيث تمنح الحكم المحلي الصلاحيات المختلفة ليكون بمثابة الذراع التنفيذيّة للدولة في مختلف المناطق. يوجد ثلاثة أشكال للحكم المحلي في دولة الاحتلال، يملك صلاحية توزيعها وزير الداخليّة وفقاً لمساحة المنطقة وطبيعتها الجغرافيّة كما وفقاً لعدد السكان فيها. الشكل الأول هو البلديّة - وهي أكبر سلطة محلية وتملك أكثر صلاحيات، ويترأسها رئيس مع قائمة أعضاء تدير شؤون المدينة، عمليّة الانتخاب فيها تشبه انتخابات الكنيست. الشكل الثاني، وهو المجلس الإقليمي، لحكم منطقة تضم عدة بلدات ومناطق، الانتخابات لرئاسة المجلس هي مباشرة أما أعضاء المجلس الإقليمي فينتخبهم سكان البلدات ويمثل كل منطقة عدد من الأشخاص بما يتلائم مع عدد السكان. أما الشكل الثالث وهو المجلس المحلّي، فإنه سلطة أصغر من البلديّة، حيث يُنتخب رئيس المجلس بطريقة مباشرة وينتخب أعضاء المجلس المساعد بانتخابات قوائميّة.
وفق مادة أعدها الأساتذة وسام زعبي وجلال طه[6]، إن صلاحيات الحكم المحلّي هي: سن القوانين المساعدة والمحدودة التي تسهل عمل الحكم المحلي في مجالات مثل الصحة والبيئة والمياه (لا يُسمح سن قوانين تتعارض مع قوانين ورغبات الكنيست)، صلاحيّات فرض وجباية الضرائب، شبه صلاحيّات للمقاضاة وسماع شكاوى السكّان في قضايا الخدمات الاجتماعيّة والمجاري، وصلاحيات التنظيم والبناء التي تمنح الحكم المحلّي سلطة تحديد استخدامات الأراضي ومصادرتها إن اقتضت الحاجة "لإيفاء حاجيّات السكّان". ووظائفه الحكوميّة هي تقديم للسكان المحليين خدمات التعليم، خدمات الرفاه الاجتماعية، خدمات هندسة وبناء، مد شبكات الصرف الصحي، تزويد المياه، الوقاية الصحية والنظافة، خدمات الإطفائيّة، ترخيص المحلات والمصالح، الخدمات الدينية. أما عند النظر إلى مكانة الحكم المحلي، فيفترض أن يعمل كذراع إداريّة للسلطة المركزيّة لمساعدة الحكم المركزي في تحمل أعباء السلطة. حسب تعريفات هذه المادة، إن "الحكم المحلي يعتبر هيئة سلطوية منفصلة ومنتخبة لخدمة السكان ويستمِد صلاحياته من سكان السلطة المحلية." يُبرز هذا التعريف سمات الحكم غير المباشر حيث نرى أن السلطة المحلية تكتسب شرعيتها من الانتخابات، مما يعني في سياق استعماري تكتسب شرعيتها من السكان المحليين. ولكن، إن نظرنا لما يجري على أرض الواقع، نرى أنه الشرعية في التمثيل هي شيء، ولكن اتخاذ القرارات وتوزيع الميزانيّات وسن القوانين هو أمر آخر.
بالإضافة إلى المجلس ومباني الحكم المحلي المحيطة به، تستورد المجالس المحليّة البرامج الثقافية والتمويل والمراكز الرياضية التي بنتها مؤسسات مثل مفعال هبايس وغيرها، كما تحاول بشكل مستمر تنفيذ هذه البرامج في المدارس والساحات العامة للسيطرة على الحيّز الثقافي وتحريف محتواه بما يخدم مصالح المنظومة الحاكمة. تشمل هذه البرامج دائماً خطابات المواطنة والحث على الالتزام بقوانين ونمط المعيشة المطروح، ومشاريع تنقل طلاب المدارس إلى مراكز إسرائيلية في الداخل الفلسطيني المحتل تحت غطاء "طلاب متفوقين" ومشاريع الماداتسيم والناعار عوفيد فيلوميد وغيرها من مشاريع تعمل بشكل مباشر على أسرلة أهل الجولان. تصبو جميع هذه "البرامج الثقافيّة" إلى تذويت وخلق العادات والتقاليد الجديدة أيضاً تحت غطاء ديني، وتصنيف سكان الجولان على أنهم "دروز" وتابعين للقيادات الدرزية في الجليل على أساس طائفي.
عند النظر الى تبعيّة المجلس المحلّي نرى أنه غير مستقل ومتعلّق تماماً بالحكم المركزي، فإن صلاحياته جميعها محدودة ومقيّدة من قبل مباني حكومية مركزية أخرى. فمثلاً، تقيّد الكنيست المجلس المحلي في سن القوانين عندما تعارضها، وتحدد السقف الأقصى والأدنى للضرائب التي تعد الدخل الأساسي للمجالس المحليّة بينما توزع حكومة الحكم المركزي الميزانيّات وفق معاييرها العنصريّة التي تترك البلدات العربية تعيش في تقشّف. بالإضافة إلى ذلك وفقاً لقانون أسس الميزانيّة، تقيّد الكنيست المجالس في اقتراض الأموال. أما وزارة الداخليّة، فهي مسؤولة عن تشكيل أو حتى حل المجالس المحليّة وتملك صلاحيات تقيّد الحكم المحلي، من حيث أنه يجب دائماً تقديم الطلبات وتلقي الموافقات من قبل وزارة الداخلية.
كما رأينا من المسح السريع أعلاه لوظائف وصلاحيات نماذج الحكم المحلّي بأشكاله الثلاثة، بما في ذلك نموذج المجلس المحلّي المنوي تطبيقه في قرى الجولان السوري المحتل، أنه ليس إلّا أداة حكم محلي غير مباشر مثل الكثير من النماذج التاريخية التي سبقته، وأنه مهما كانت نوايا الرئيس والمجلس المنتخبين طيبة، إلَا أنهم ما زالوا يخضعون لمحدوديات قرارات ورغبات وميزانيّات الحكم المركزي ومجبرون على تأدية المهام والأدوار المنوطة بهم والتي تغذي وتكوّن ركناً أساسياً من أركان تطبيق مصالح المنظومة الاستعمارية في الجولان. من مراجعة التجربة التاريخية في البلدات العربية نرى بوضوح أن القرارات التي تتخذ بالحكم المركزي عادة ما تحركها دوافع عنصرية وتعتمد سياسات إقصائية تميّز بين البلدات العربية وتلك اليهوديّة، وحتى داخل البلدات اليهوديّة نفسها، وتسعى بالأساس للسيطرة السياسية والاقتصادية على حساب السكان الأصليين.
3.خطابات الترغيب وممارسات الترهيب
3.1 الترغيب والترهيب في الحكم غير المباشر
مع ازدياد تبني نماذج الحكم غير المباشر وازدياد شعبيتها والترويج لها، بنيت وتأسست التنظيرات الاستعمارية التي تهدف لبناء معرفة عن أنجع طرق الإدارة والسيطرة على الشعوب من خلال هذه النماذج. يمكننا بشكل أولي تقسيم الوسائل والأفكار التي تمارسها المنظومة الاستعماريّة من خلال رؤساء المجالس المحلية لتحقيق السيطرة الى قسمين أساسيين، الأول، قسم الأدوات والخطابات التي تعمل على تحقيق السيطرة من خلال التقرب من السكّان الأصليين وخداعهم بأن الاستعمار ومشاريعه، إن أرادوا وإن عملوا بجد واجتهدوا تحت حكمه، سوف ينعمون بالأمان والاستقرار، وأن كل اهتمام الاستعمار هو مساعدتهم على التطور والتحضّر. أما القسم الثاني، فهو الوسائل الأكثر مباشرة، والتي تسعى لتحقيق الإخضاع والسيطرة عن طريق العنف والترهيب والبطش.
تستخدم جميع هذه الآليات والوسائل على أرض الواقع ومن قبل الأطراف المختلفة بالتوازي وليس بالضرورة كلّ على حدا. نرى استخدام آليات "الترغيب و\أو الترهيب" من قبل الاستعمار في جميع مباني حكمه الرسميّة من لجان الصحة والتربية والتخطيط والبناء، أو مثلاً الجهاز القضائي ونظام السجون وما إلى ذلك من أدوات قمع يملكها المستعمر ويترأسها مستعمرون. كما يمكن الحديث عن آليات شبيهة ولكنها لا تتبع لمنظمّات النظام الرسمي، وإنما هي طرق جانبيّة وغير مباشرة تستخدمها الأنظمة الحاكمة، مثلاً يمكن بشكل غير رسمي توظيف الوكلاء من السكّان المحلّيين من عملاء وموظفين لديها للقيام بهذا القمع والعنف، أو حتى إنشاء قوات شرطة محليّة حكوميّة لتكون الذراع التنفيذية للحكّام المحليين مثل رؤساء البلديات والمجالس أو شيوخ معيّنين يمكن أن يعلنوا ولاءهم لمنظومة الاستعمار مقابل الحفاظ على سلطتهم ونفوذهم المحلي في هذه البلدات. كان على أرض الواقع الرؤساء المحليين والمسؤولين عن السيطرة والإدارة، أقلية نسبة للشعوب والمجموعات التي تم السيطرة عليها، وبالتالي دورهم في أنظمة الحكم غير المباشر اعتمد بشكل أساسي على آليات السيطرة والإخضاع، محاولين الحفاظ على نظام واستقرار بأوساط المُستَعمَرين، وتحديداً عندما يعارضون أو يواجهون سلطة المُستعمِر او المسؤول ومحاولات هذا الأخير للاستحواذ على أرضهم وأجسادهم ومواردهم وجباية الضرائب منهم(02).
أدّت نماذج الحكم المباشر، حيث تولى بشكل حصري المستعمرين البيض القلائل الوظائف والمناصب الحكومية والإدارية وغيرها ورفضوا توظيف الخبرات المحليّة رغم وفرتها، أدّت إلى نقص حاد في عدد الأشخاص المطلوبين والأيدي العاملة للقيام بهذه المهام، ونتج عن ذلك التقصير بحق السكان الأصليين وبتقديم الخدمات الأساسية لهم، واستلاب حتى الحقوق الأساسية مثل الحق في التعليم، مثلاً في أفريقيا أو جزر سولومون(12). مما ساهم في زعزعة الاستقرار الإجتماعي ولحالات غضب واحتجاجات، حيث لجأت المنظومة المستعمِرة لمناهج الحكم غير المباشر (02,12). بالنظر مثلاً إلى نماذج الحكم المحلّي في سياق الاستعمار الغربي لغالبية دول ومناطق أفريقيا، أثبتت تجربة المجتمعات المستعمَرة، كما جاء في نظريّات وتحليلات المستعمرين أنفسهم، أن المعادلة التي تسعى إليها المنظومة الاستعماريّة من خلال الحكم الغير المباشر كما ذكرنا، هي بالأساس تقليل تكلفة الحكم وخلق نظام حكم ذاتي ما يخدم مصالح منظومة الاستعمار بأقل تكلفة ممكنة وبأكثر ربح (أي أكبر قدر من امتصاص ثروات وخيرات المنطقة). لتحقيق هذه المعادلة بطبيعة الحال تعتمد على الوسطاء المحليين أو رؤساء المجالس كما في حالة الجولان السوري المحتل، وعلى ربط اختيارهم مع التحضّر والتطوّر، ولهذا تتكون متغيّرات المعادلة من خليط بين درجة قدرة هذا الرئيس أو هذه المجموعة على السيطرة على السكان الذين يحكمونهم، إن كان عن طريق الخطابات الشعبويّة الفارغة التي تعكس درجة "اهتمام" هذا المرشح أو ذاك، أو من خلال من يمكنه السيطرة من خلال ممارسة العنف والبطش وتخويف السكان بهدف إخضاعهم وضمان قبولهم بشروط "أقل عنيفة"(03).
أحد الأهداف من دعم الأوروبيين أنظمة رؤساء الحكم غير المباشر هي اعتقادهم أن هؤلاء الرؤساء سوف يشكلون حصناً في وجه التمردات المستقبليّة التي قد تحصل من قبل قيادات محليّة تسعى للمزيد من السلطة والسيطرة والقوة(12)، ولذلك كان من المهم للقوة المستعمِرة أن يكون الرئيس المحلي مقبول من قبل السكان المحليين، فإذا لم يحظى بالشعبية الكافية سوف تحدث تمردات وتواجه الحكومة صعوبة في إدارة المنطقة العينية أو البلدة بأكملها، مما يضر في نجاعة استخراج الموارد والثروات(02,05). جزء من مصلحة القوة المستعمرة في وجود هؤلاء الرؤساء كان لتخيّلها أن وجودهم يخدم إضفاء الشرعية للقوة المستعمِرة وتسهيل السيطرة على المجتمعات المستعمَرة والتحكم بهم. لهذا نرى إصرار الاستعمار على خلق هؤلاء الرؤساء أو المشايخ في المجتمعات التي تم تدمير نسيجها وإضعافها إن لم يكونوا موجودين أصلاً، وفرض نمط حكم لغرض خدمة أهداف السيطرة والإخضاع وجباية الضرائب، وخلق القيم والتقاليد الاستعمارية الدخيلة التي يتم نسبها للمجتمعات المحلية. يمكننا أيضاً ربط هذا النمط مع المؤسسات والمحاكم والسلطة الدينية وغيرها، حيث لا يكتفي هذا النوع من الحكم بتسخير القوات المحلية الحاكمة فحسب، بل يبني ويخترع منظومات ومؤسسات جديدة بما تطلبه البراجماتية لضمان عمل نظام السيطرة والنهب بالمجان وبشكل ناجع دون أي تمرد أو جهة أو سلطة بديلة(12).
تاريخيّا، وفي أدبيّات الحكم غير المباشر، نرى المصلحة والقيم المشتركة بين سعي الوسطاء المحليين ممن يسمون رؤساء مجالس أو مجموعات أخرى التي تحكم البلدات المختلفة، وبين معايير اختيار هؤلاء الأشخاص من قبل المنظومة الاستعماريّة ونوعيّة الوظائف التي يقومون بها في هذا السياق بالنيابة عن المنظومة الاستعماريّة (ومن هنا تسميّة "الحكم غير المباشر").بما أن الهدف من تعيين الرئيس المحلي بالنسبة للقوة الاستعمارية كان السيطرة على المجتمع المستعمَر بشكل ناجع وبأقل مصاريف ممكنة، فإن معايير انتقاء الرؤساء ومساعدتهم تتمحور حول هذا الهدف فقط. النتيجة تكون تعيين رؤساء غير مؤهلين ومستبدّين وعدم توفّر آليات محاسبة ومساءلة أو قدرة على تحمّل المسؤوليات، فكانت المنظومة الحاكمة تهدف للتنصل من المسؤوليّات والأعباء اليوميّة للمستعمرين وتأمين نظام حياتهم وأمانهم، ودائماً تلقي مسؤوليات مثل محاكم الزواج والطلاق، والخلافات العائليّة وجباية الضرائب وغيرها من أمور مثقلة، ضمن وظائف هؤلاء الرؤساء دون امتلاكهم أدوات تنفيذية أو موارد مخصصّة أو حتى الخبرات والمؤهلات لمواجهة هذه القضايا الاجتماعيّة. لطالما أنهكوا الرؤساء والمجالس في هذا الهامش وهذه المهام التقنيّة، بينما يتفرغ المستوطنون والمستعمرون للقضايا الأكبر مثل تقسيم الأراضي والتحكم بالموارد، والقوانين وتحديد مصير جميع السكان. ويمكن هنا رؤية ازدواجيّة القوانين والأنظمة في ظل الحكم غير المباشر، حيث يتمتع المستوطن بجميع حقوقه ويمارس واجباته ويكسب مقابلاً من هذه المواطنة ويعيش تجربتها بكامل تفاصيلها، بينما أشخاص أخرون مستعمَرون مثلاً عادة ما يسكنون في الريف تحكمهم بالإضافة لقانون الدولة العام الذي "يسري على جميع المواطنين"، قيود وأعراف الحكم المحلي الغير المباشر و محدوديات ميزانيته وبرامجه.
بالتوازي مع هذا فإن تركيز المنظومة الاستعماريّة في نماذجها المتنوّعة للحكم غير المباشر يكون على صب ميزانيّاتها في البرامج السياسية والثقافيّة مثلاً التي تعمل على كي الوعي، أو على أدوات لتنفيذ وظائفها بخدمة الاستعمار بشكل ما حسب سياق وموارد المنطقة، أو على أجهزة القمع والبطش مثل مراكز الشرطة وغيرها. لا تكتفي المنظومة بهذا بل تفرض سياسات تقشّف ومناهج "تمويل ذاتي" للتكفّل بالأعباء المادّية والإداريّة التي عمل النظام الحاكم بشكل ممنهج على إلقائها على هؤلاء الرؤساء الذين لا يستطيعون تحملها ولا يملكون الموارد الماديّة والبشريّة الكافية لتنفيذها. لعل المثال الحي على هذا الترهل والإهمال هو الحالة الأفريقيّة حيث خلّف حكم الاستعمار ونماذج الحكم الغير المباشر التي فرضها العديد من الكوارث الاقتصاديّة والانسانيّة والبيئيّة بسبب إهمال جميع هذه الجوانب طوال سنوات الاستعمار. يؤدي كل هذا إلى إهمال القطاع الخدماتي ومستوى الرفاهية ونجاعة وعدالة الحكم في هذه المناطق حتى تتوقف عن القيام بعملها بشكل جدي لتصبح تقوم بأعمال روتينيّة ورمزيّة فقط(05). في المستعمرات البريطانية مثلا، كان المُستعمرون الإنجليز يعملون كمستشارين لمساعدة الحكام المحليين ليكون هناك مظاهر من احترام السكان المحليين وعاداتهم واحترام سلطة ونفوذ الحكام المحليين، ولكي لا يبدو أن هناك تدخلاً مباشراً ما يمكن أن يشوّه صورة المنظومة الديموقراطية التي تحاول من خلالها "ترغيب" المجتمعات المستعمرة بنماذج حكمها(04). ولكن في نهاية المطاف، وبالرغم من محاولات المستعمرين إضفاء مظاهر الديمقراطية على الحكم غير المباشر والترويج لأنه يضمن حق الشعوب المحلية في اختيار قادتها وممثليها، تبقى الأولوية من جهتهم أن يمثل الرئيس المحلي أولاً وقبل كل شيء، سلطة القوة الاستعمارية وضمان مصالحها، إن تم انتخابه أو تم تعيينه، إن كان من السكان المحليين أو كان أحد المستعمرين(03).
بالرغم من توظيفهم ليكونوا حلقة الوصل بين المنظومة الاستعمارية وبين الشعوب المستعمرة، استمر المستعمِر في اعتبار الرؤساء المحليين دونيين وغير متحضرين وأن بإمكانه استبدالهم في أية لحظة دون معارضة أو اهتمام من طرف المجتمعات المحلية(10). في الأماكن التي عارض فيها الشيوخ أو الرؤساء المحليين سلطة المستعمِر، كثيراً ما تم اعتقالهم أو إعدامهم واستبدالهم برؤساء من خارج البلدة أو القرية. وتم في بعض التجارب التاريخية ممارسة العنف والإهانة والسيطرة على القادة والشيوخ المحليين وأصحاب المناصب المحترمة، بهدف إخضاع وترهيب البلدة - مثلا، إجبار زعيم أو رئيس القبيلة على القيام بمهام العبيد من تنظيف إفرازات وقمامة، تحت تهديد الجلد أو الإعدام عند المعارضة، في أنظمة سرقة المطاط في الكونجو الأفريقيّة(05) وبالذات لأنهم في الكثير من الأحيان لم يعرفوا حتى المجتمعات والأشخاص الذين وضعوا بمنصب حكمهم أو عاداتهم وتقاليدهم ولم تكن هناك محاور للتعامل معهم(12).
شح الموارد عند الرؤساء المحليين وافتقادهم لذراع تنفيذية حقيقية، جعلهم يعتمدون أكثر على "هيبتهم" وأن يلجأوا للسيطرة والترهيب وفي بعض الحالات أيضا لميليشيات أو قوة خارجيّة، بدلاً من الحكم من خلال القانون وتمثيل السكان الأصليين(02,10)، لتنفيذ مخططاتهم لجأوا وقت الحاجة إلى توظيف مجموعات سرية غير قانونيّة أو لأجهزة الشرطة النظاميّة التابعة لمنظومة الاستعمار(05). في ديناميكية الحكم هذه والقوة الهشّة التي ينالها الرؤساء المحليين، يضطرون مع مرور الوقت إلى أن يطوروا نفوذهم ليشكّلو عصابة حاكمة مع ذراع تنفيذية غير قانونية مثل نشر عصابات أو أشخاص عنيفين بالمنطقة بهدف تخويف السكان من “الفوضى “ أو من أن الوضع قد يكون أسوأ بكثير مما هو عليه الأن لولا النظام والحكم القائم(03). تكوّن المنظومة الحاكمة شعور الخوف المستديم والمستمر هذا وتبني عليه بهدف إبقاء سيطرتها بالقبضة الحديدة والترهيب دون الحاجة لتقديم أي مساعدات أو الاهتمام فعلاً بإيفاء وعودها بالتطور والازدهار والاستقرار. نتيجة لخلق طبقات مستفيدين من السكان المحليين، تتكون بطبيعة الحال بقية السكان الغير مستفيدين من نهب أراضيهم ومواردهم، فيتم العمل على إخضاعهم في جميع مجالات الحياة والسيطرة على المنطقة والموارد والسكان والحفاظ على الصراعات الداخليّة والبناء عليها، لاستخراج الموارد أو الخيرات وحتى الأفكار والطاقات، بدلاً من الاستثمار بالطاقات المحليّة وتطوير البنى التحتيّة والاهتمام بالبلدة، ليتم استخدام هذه الموارد محليا للإنتاج بدل التفريط فيها لصالح جهات خارجية ودخيلة، وهذا يعيدنا إلى عدم التطور والإهمال وبقاء أشخاص غير مؤهلين أو حتى متواطئين وفاسدين في سدة الحكم(02,04,05). دائماً ما تركت أنظمة الحكم هذه فساداً وضرراً اقتصادياً واجتماعياً كبيراً، بالأساس بسبب اعتمادها على نماذج التلاعب والإضعاف والإخضاع بشكل ممنهج ومستمر، على عكس التطور والاستثمار والاستقرار التي تعد السكان المحليين به(08).
في جانب الترغيب، تعتمد نماذج الحكم غير المباشر على العديد من المغالطات والأغطية في عمليّة خداع وإجبار السكان المُستَعمًرين على التسليم لها، فهي تعمل بشكل ممنهج و ممأسس على خلق فاصل وهمي بين ما يعتبر "نقاشات سياسيّة" سلبيّة يجب الابتعاد عنها، وبين ما يعتبر "خدماتي بحت" وهو أمر جيد لنا للسكان الأصليين ويعبّر عن تتطورهم ومدى حبهم للبلاد. نرى في هذا الخطاب فوقيّة واستعلاء المستعمر في محاولاته لإقناع السكّان الأصليين في حين من الواضح أن مسائل الإدارة والحكم المحليّة كانت أو الإقليمية أو القطرية، هي سياسيّة في جوهرها ومنها تتفرع جميع القضايا الفرعيّة الاجتماعيّة الثقافية وغيرها من المجالات المتقاطعة والمتعلّقة ببعضها البعض (05).
بالتالي، يمكننا أن نبدأ بفهم كيف ولماذا وضعت هذه الاستراتيجية، أي خلق طبقة من النُخَب وإعطائها سلطة لتحكم الشعوب المحلية في أسلوبيها، الترغيب والترهيب، لتخدم وتعزز منظومة الاستعمار. فهي تجسيد لاستراتيجية القهر والتسلط الكلاسيكية: فرّق تسد. في خلق طبقة مستفيدة من الوضع الحالي وتظهر كطبقة وسطى، تهدف منظومة الاستعمار إلى إقناع بقية السكان أنه إن عملوا بولاء لصالح وضمن قوانين المنظومة الاستعمارية، فسوف تتحسّن مكانتهم الاجتماعية، ويحضون بهذا المستقبل المستقر والنمو الاقتصادي وما إلى ذلك. بطبيعة الحال ما ينتج عن هذا هو طبقة وسطى تتلقى بعض الفتات (من موارد شعبها المسروقة) التي تتمسك به ولا تثور على المنظومة، وتشكل نوع من الحماية المجانية للمنظومة الاستعمارية والحفاظ على الواقع الحالي والذي بشكل ممنهج يطوّع لخدمة مصالحها(02,04). أما الترهيب، فيأتي من خلال إعطاء منظومة الإستعمار لهذه الطبقة من النُخَب سلطة جزئية ما على الحق في ممارسة العنف - وتحديداً في الغالب سلطة الاحتجاز أو العقوبات - تجاه هؤلاء المُستَعمَرين الذين يقصرّون في دفع ضرائبهم أو القيام بواجباتهم الأخرى، والمسؤولية على تجميع وتمرير معلومات استخباراتية عن الأشخاص المُعارضين أو الرافضين لسلطة المُستَعمِر والتنسيق الأمني، والتقيّد في تعريفات المُستَعمِر القانونية عندما يبرز أشخاص أو مجموعات من المجتمعات المحلية التي تنتقد أو ترفض أو تواجه سلطة الاستعمار وشرعيتها.
دفع هذا بعض المفكرين في دراسات تاريخ الاستعمار لفهم الحكم غير المباشر ليس كحكم يهدف إلى إعطاء الامكانيّة للرؤساء المحليين لحكم الشعوب الأصليّة، بل كحكم يهدف لأن تحكم المنظومة الاستعماريّة الشعوب الأصلية بأيدي الرؤساء المحليين. اعتقد بعض المفكرين أنه بما أن الهدف السياسي للحكم غير المباشر هو تقسيم وتصنيف الشعوب المحليّة الأصلية إلى مجموعات إثنية، فهذا يشير إلى ابتعاد منظومة الاستعمار عن مشروعها الأصلي وهو، وفق ادعائها، التحضّر والتنمية والتطوير، وإبقاء "السكان الأصليين سكان أصليين، بعيدين كل البعد عن القوانين المدنية والحضارة". وفق هذه الانتقادات، الحكم غير المباشر أو المحلي هو نتاج تآلف بين "الرومانسيين من العسكريين والانثروبولوجيين" والذين أرادوا "استرجاع" الحكم المحلي وأنماط الحكم المتعددة التي استخدمتها الجماعات والثقافات المستعمرَة لإدارة أنفسها، قبل استعمارها وتدمير أنسجتها المجتمعية. فالحكم غير المباشر بالواقع هو ليس إعطاء قادة محليين قوة، إنما هو استلاب وتحديد قوتهم ومن ثم توظيف ما تبقى لمصالح استعمارية(12). اعترف بعض المفكرين أنه " تم تصميم الحكم غير المباشر بطريقة تحافظ على المؤسسات المحليّة بشكل يكاد يكفي لضمان النظام وتوفير القوى العاملة فقط” وأيضا أن "أنظمة السلطة المحليّة الاستعمارية لا تمثل بأي شكل من الأشكال حكم ذاتي للشعوب المستعمرة. إلى حد ما هي ليست إلا أداة لجعل رئيس محلي يفعل شيء ما تريد الحكومة انجازه" ولكن لا ترغب أنظمة الاستعمار فعله كي لا تتضرر صورتها. بما معناه أن تطوير وضمان حقوق السكان الأصليين والاستقرار، لم يكن ضمن مخطط المستعمرين وطرق حكمهم المختلفة للشعوب التي تقع تحت الاحتلال(12).
جميع استراتيجيات الترهيب والترغيب للمنظومة الاستعماريّة وبالتحديد تلك التي تخلق تصنيفات للسكان الأصليين وتضعهم بشكل ممنهج في صراع فيما بينهم، تؤدي إلى عدم ثقة السكان في هذه المنظومات وبالتالي عدم المشاركة فيها. بالتوازي، تحاول بعض المؤسسات المحلية والنُخَب الحاكمة ملء الفراغ الثقافي الذي كّونه الاستعمار باستخدام أساليب عنيفة تهدف إلى السيطرة على المجتمع، ليكون حقلاً إضافياً تعمل به وفق سياسة الترغيب - بعرضها لنشاطات ثقافية وبرامج ترفيهية، وتمرير مضامين واضحة أو مبطنة تحتوي على خطابات واأيديولوجيات موالية للنظام القائم - مما يولد برامج تنمية غير متوازنة ولا تهدف أو تسعى حقاً لتنمية المجتمعات المستعمَرة(05). من المهم أن نتذكر أنه في الكثير من الحالات، ساهمت هذه الفجوات في تعزيز اللحمة المجتمعيّة والتعاون بين أبناء المجتمع لدعم وتلبية احتياجات بعضهم البعض ولمواجهة النُخَب المحلية والسلطة الاستعمارية(05). لبناء هذا الالتحام والمواجهة، على المجتمعات المستعمَرة أن تفهم وتؤطر واقعها بشكل نقدي، بالتالي، يجب أن نتأمل بتعمّق في المجلس المحلي على أنه شكل آني من أشكال الحكم غير المباشر الذي تم تصميمه لقرى شمال الجولان ويتم فرضه على السكّان المحليّين، مما يمكّننا من فهمه بشكل جلي كاستراتيجية استعمارية بنيت لتُحكم السيطرة على السكّان بشكل ناجع وغير مُكلف. قبل الخوض في قراءة المجالس المحلية في السياق في الجولان، لعل من المناسب أن نتأمل سريعاً في تجربة محلية قريبة وهي تجربة "فلسطينيي ال 48" مع المجالس المحلية.
3.2 قراءة أولية لتجربة فلسطينيي الداخل مع المجالس المحلية
عادةً ما نرى أن في القرى والبلدات العربيّة التي تجري فيها الانتخابات بشكل دوري في الداخل الفلسطيني، لا تكون التقسيمات لهذه الانتخابات حسب تيّارات سياسيّة أو أحزاب ومجموعات مختلفة كما هو الحال في إنتخابات الكنيست، إنما ما نراه أن هذه التقسيمات تعتمد معايير عائليّة، أو طائفيّة أو عرقيّة وغيرها. عند النظر إلى الإحصائيات بخصوص البلديات والمجالس المحليّة في البلدات والقرى العربية في فلسطين المحتلة، نرى اختلافاً في الاهتمام بالانتخابات، حيث يظهر أن التصويت للكنيست لا يتمتع بشعبية ولا يعتبر مساحة للتأثير على الواقع اليومي للمواطن العربي، بينما تحظى انتخابات البلديات والمجالس المحليّة بشعبية واشتراك واسع بالتصويت وتعتبر انتخابات مصيريّة تحدد الحياة اليوميّة وتؤثر عليها بشكل مباشر. نلاحظ أن انتخابات المجالس المحليّة في الداخل الفلسطيني المحتل تتم وفق تقسيمات عائليّة ودينيّة وليس وفق مخطط سياسي وإعلانات انتخابية تمكن المواطنين من الإختيار والتفكير في المخططات المطروحة ومدى موافقتهم عليها. لكن، على الخلاف من الخطابات التي تؤطر الشعوب المستَعمرة كتبعيّين وخاضعين، يجب علينا الانتباه لكون العمليّة الانتخابيّة تخص مواضيع سياسيّة في جوهرها، ولكون هذه الأنظمة والعمليّات مشبّعة في القيم الذكوريّة والسلطويّة والتنافسيّة وغيرها من قيم فردانيّة، وكونها تعتمد بالأساس على شرخ ما أو خلاف ونقطة ضعف ما في هذه المجتمعات (يتعلق بالسياق المحلي: شرخ طائفي-عرقي-سياسي "داخلي" …)، فهي تخلق تكتلات وتجمعات داخليّة في المجتمع، وتتبع معايير مشبعة بقيم مماثلة لتقسيم وتصنيف الشعوب المستعمرة، لا سيما مع العمل الفعال الذي تقوم به منظومات الاستعمار من زرع فتن وتحريض ومناهج فرق تسد أخرى.
عند النظر للفروقات بين السكان الفلسطينيين الذين يسكنون في البلدات المختلطة وبين الذين يسكنون البلدات والمدن الغير مختلطة، نرى أن في البلدات الغير مختلطة يتصدر عادة سدة الحكم أشخاص غير مؤهلين وغير ملمين بالسياق السياسي وبالتالي يساهمون بانتشار الفساد والكساد الاقتصادي وتفشي العنف وغيرها من مشاكل مجتمعيّة، بينما على المستوى العام لم تستثمر الحكومة تاريخيًّا في تنمية الاقتصاد المحلي في البلدات العربيّة أو على بناء جامعات وتكوين فرص عمل وحياة كريمة، كما أنها بشكل ممنهج لا تخصص الميزانيات والمؤسسات والخدمات المتكافئة مقارنة مع ما تتلقاه المستوطنات أو البلدات المختلطة مما يؤدي الى التقصير في جميع مرافق الحياة لدى السكان، ويترك شعوراً لدى "المواطن العربي" في جميع مناطق التواجد، أن الأيام تمضي في ظل هذا الحكم، ولكن الوضع سيء على ما هو ولا شيء يتغير.
يتعرض الفلسطينيون الذين يسكنون في البلدات المختلطة لقوانين الحكم السارية على المستوطنين، ويتم جباية الضرائب منهم وهم مطالبون دائماً بتأدية "واجباتهم"، ولكن نلاحظ بالرغم من سعي المواطن الفلسطيني للتقيد بهذه القوانين، إلا أنه لا يتلقى الخدمات نفسها، وإذا ابتعدنا قليلا عن كون الشارع معبد وتتوزع فيه حاويات القمامة وشارات التهديد بتحرير المخالفات لمن لا ينظف براز كلابه عن الشارع، نرى أن الطالب العربي لا يتلقى نفس الدعم المتوفر للطالب اليهودي مثلا، إن كان على صعيد كثرة ووفرة المنح الدراسية، وكون اللغة المستخدمة في الأكاديمية هي اللغة العبرية، بينما لا تسعى الجامعات إلى توفير مواد باللغة العربية أو برامج تساهم في تقليص الفجوات بين الطلاب وتوفير احتياجاتهم وفق ظروفهم. أما إذا نظرنا إلى نموذج الحكم غير المباشر في الضفة المحتلة من خلال السلطة الفلسطينيّة، فنرى أنها سلطة قائمة على نظام محسوبيات فاسد، تعتاش منه السلطة ومقرّبيها وبعض الفتات للمواليين لها، بينما لا تسعى هذه السلطة للاستثمار والتطوير وخلق حلول خلاقة للسكان المحاصرين، إنما تساهم في فرض الحصار عليهم والقيام بالمهام التي لا يمكن للمنظومة الحاكمة تنفيذها أو أنها لا تريد أن تخرب صورتها لدى السكان الأصليين بالقيام بأعمال عدائيّة معيّنة قد تؤدي إلى تغيير توازنات الحكم القائمة والتي تخدم مصالح الاستعمار[7].
3.3 الخطابات التي تؤطر واقعنا
كما ذكرنا أعلاه، إن الخوض في الأدبيات والمواد التاريخيّة حول الحكم غير المباشر يكشف الكثير من الأنماط والنماذج المتنوعة والاستراتيجيات المشتركة بينها - الترهيب والترغيب. هذه الاستراتيجيات تعتمد على مغالطات نظرية وخطابات ومفاهيم وثنائيات نستخدمها لتأطير ووصف واقعنا، كانت قد ذوّتتها فينا منظومات القهر عبر التاريخ. في هذا القسم، نحاول أن نتتبع هذه الخطابات لنرى كيف يتم توظيفها من قِبَل المستعمِرين وكيف تذوّت ويردّدها بعض سكّان قرى شمال الجولان. لتكوين هذا الجزء، تتبعنا بعض الأخبار من وسائل إعلام إسرائيلية(20-30) وبعض آراء المحللين من كتابات وأبحاث لأكادميين تابعين لمنظومة الاستعمار، ورأينا بعض الثيمات المشتركة بين جميع هذه الخطابات قد تساعدنا على تفسيرها وفهم هدفها وكيف تستخدم لتمرير مشروع الحكم غير المباشر. هذه الثيمات هي: علاقة السلطة المحلية في "الديمقراطية الإسرائيلية"، علاقة السلطة المحلية بالتقدميّة ومشروع التحضّر، وعلاقة السلطة المحلية بضم الأراضي والاستيطان. تعمل هذه الخطابات والاستراتيجيات التي تنبثق منها على تذويت قيم الخضوع وإرضاء المستعمر وخدمة مصالحه طوعًا، مما يشكل دلالة أساسيّة على آليات ونماذج حكم غير مباشر ومبنية على أساساته، ويفسّر كون الهدف الأساسي لهذا النظام هو خدمة مصالح المنظومة الاستعماريّة والسيطرة على السكّان بدلاً من الاستثمار في الأشخاص وتطوير هذه المناطق كما تدعي.
علاقة الانتخابات بالديمقراطية الإسرائيلية
حسب التوجه الكامن في الثيمة الأولى - علاقة الإنتخابات بالديمقراطيّة الإسرائيليّة، من المهم وجود حكم محلي في الجولان المحتل، وتحديداً من خلال مسار انتخاباتٍ لمجالس محلية، لأن هذا يقوّي ويعزّز الديمقراطية الإسرائيلية، أو بالأحرى، صورة الديمقراطية التي يجتهد الكيان أن يبثها للعالم(24). على سبيل المثال نلاحظ هذا التوجه في خطاب وزير الداخليّة أرييه درعي: "الإنتخابات في المجالس الدرزية في الجولان خطوة تاريخيّة. خطوة تعزّز الديمقراطية الإسرائيليّة. جاءت اللحظة، بعد 41 عامً، ليستطيع سكّان الجولان ممارسة حقوقهم الديمقراطيّة وانتقاء ممثليهم". حسب هذا التوجه، فإن الكيان هو دولة حديثة متنورة وديمقراطية، وليس مستعمرة عسكرية محتلة. نلاحظ شقّين في تذويت هذا التوجه: أوّلهم هو في خطاب المواطنة والذي يعمل بالأساس وفق المنطق الرأسمالي الذي ينص على العمل على "تحسين المواطن" وسلوكه وفهمه للقوانين والأعراف التي سنّها المستعمر كآليّة لتحسين جودة حياته والخدمات التي يتلقّاها وليهنأ بقسط من الأمان والازدهار. الشق الثاني من تذويت هذا الخطاب يأتي على شكل تبنّي خطاب المواطنة لكن من دافع أو مبرر البراجماتية والعملية لفحص هل هناك فعلاً فائدة من المجالس المحلية؟ هل فعلًا يمكن للتصويت في الانتخابات أن يؤثر على المجلس المحلي وعلى توجهاته وأدائه؟ هل يوجد اختلاف ما بين المجالس المحلية وبين البرلمان يضفي الشرعية على الانتخابات للمجالس المحلية كونها "تدير الشؤون اليوميّة" كما يدّعي البعض، والتي لا تُمنح للبرلمان لكونه يتعامل مع "القضايا السياسيّة"؟.
يتم عرض الضحايا من خلال خطاب المواطنة على أنهم المذنبين، بحيث تربط بين كثرة الأعباء والفشل الإداري الذي تعانيه المناطق المستعمرة وبين أداء هؤلاء "المواطنين" المتدنّي وعدم المساهمة بشكل كافي أو عدم التقيّد بالقوانين بشكل صحيح، وغيرها من أسباب وحجج تحرف التحليل عن كون جذر المشكلة هو نظام الحكم الاستعماري الرأسمالي الجشع والهادف لسرقة وتدمير السكان الأصليين ومواردهم وأراضيهم. بالإضافة لذلك، بما أنه فقط الأشخاص الذين يملكون الجنسيات الإسرائيلية يحق لهم الترشّح للانتخابات، فهذا يحدد مسبقا التوجهات السياسية والأيديولوجية التي يمتلكها المرشحون لتوجهات تخدم المنظومة الاستعمارية كشرط أساسي، مما يشير إلى أن المترشحين تم انتقاءهم لخدمة مصالح معينة وليس بالضرورة لكونهم مؤهلين لتقديم الخدمات الإدارية للبلد. أي بالرغم من الغطاء الديمقراطي التمثيلي، إلا أنه في سياق استعماري الأمر الذي يحدد القوانين والأنماط التي يعيشها الأشخاص هو تصنيفهم العرقي أو الاقتصادي وغيرها من التصنيفات الاستعمارية، وليس أصواتهم أو اشتراكهم "الديمقراطي"(03). في المحاكم التابعة للسلطات المحلية، يتبنى الحكام لغة ومفاهيم ومعايير المستعمر القانونية وبالتالي يكون هناك فجوة بنيوية بين توجههم كجسم قانوني ونظامي وبين توجه الأشخاص الذين يتحكمون بمصيرهم. يضاف هنا أن التاريخ يشير إلى كيفية ميل هؤلاء الرؤساء المحليين ل"إثبات" نفسهم وولائهم للكيان المستعمِر من خلال تبني منظومات الأخلاق والقانون واللغة من المستعمِر، وملاحقة ومعاقبة مكثفة لمخالفي القوانين وممارسة العنف عليهم(10). لعل خطاب المواطنة لا يبرز أو يؤطر في الوقت الحالي في الساحة المحليّة وفق هذه المصطلحات، أو وفقًا لهذا الفهم بالتحديد، ولكن ما هو أكيد أن الجولانيون أثبتوا عبر التاريخ أن استراتيجيات هذا الخطاب لا تنطلي عليهم وكانوا دائماً كاشفين لمخططاته وخفاياه و إفشالها.
عند النظر إلى المجالس المحليّة في قرى الجولان السوري المحتل على أنها امتداد لأدوات السيطرة التابعة لمنظومة الاستعمار، يمكننا متابعة احتكار وظيفة إدارة المجالس المحليّة لمستوطنين من خارج القرى الأربعة (الظروف السياسية في قرية الغجر تختلف)، واستمرار اعتماد هذه الآلية حتى توفّرت القيادات المحليّة التي يمكن تأمينها وتدريبها على الحفاظ على مصالح المنظومة وإبقاء عجلة الحكم تدور في الجولان وفرض الأمر الواقع باستمرار تحت الكثير من الأغطية والخداع. وهو ما رأيناه في مسح الأدبيات في جميع المناطق المستعمرة في العالم من آليات اختيار وخلق الطبقة الحاكمة وهندستها بطريقة اتكاليّة في بقائها على وجود الحكم المركزي. في النظر إلى وهم خطاب المواطنة، فنرى أن وهم ضمان الديمقراطيّة وضمان مستقبل مزدهر وآمن ممكن فقط من خلال ممارسة المواطنة الإسرائيليّة، أي القيام بالواجبات وتلقي الحقوق والخدمات في المقابل، نرى المغالطة في هذه المقولة من نظرة على نتاجات الأنظمة الاستعماريّة وبالتحديد تلك "غير المباشرة" منها التي تعتمد في أساسها على أن نَقمع ونُخضع بعضنا البعض بدلاً من جعل هذا العبء مسؤوليّة النظام المستعمر بشكل مباشر. في الدراسات التي تقرأ الواقع الاستعماري في أفريقيا خلال فترة الاستعمار وما بعده في ما يسمى "ما بعد الاستعمار"، نرى أن جميع تجارب الاستعمار ونماذج الحكم المختلفة بتباين الثقافات والجنسيات والاختلافات في هذه الدول أو المناطق العينيّة فيه، خلّفت فقط الخراب والكوارث خلفَها، إن كان على صعيد الخراب الاقتصادي، أو الخراب البيئي والصحي للشعوب والنباتات والحيوانات، أو إن كان على صعيد الأذى النفسي وتذويت منظومات القمع، ما يتطلب سنوات طويلة لتخطيها وتخيّل بدائل لا تعتمد على القمع، ولا تسعى لنهب الموارد وتدمير المجتمعات. وبهذا، نرى أن العمليّات الانتخابية وجميع صفاتها ومفاهيمها الديمقراطية في هذه الحالة هي وهميّة وهدفها فقط خداع السكان المحلّيين تحت غطاء الانتخابات بهدف فرض الأمر الواقع. بالإضافة إلى وهم التمسك في خطاب المواطنة مقابل الاستقرار، تعمل الانتخابات أيضا على ترسيخ فكرة أننا نملك الخيار في تقرير مصيرنا، من خلال الانتخابات كونها النموذج الوحيد الذي يمكن من خلاله فعلا تحقيق ذلك، في حين لا أحد يختار المكان الذي يولد فيه ولا من هم الأشخاص الذين يحكموه (حتى إن كانت هنالك عملية انتخاب ما).
علاقة الانتخابات بالتقدميّة ومشروع التحضّر
حسب الثيمة الثانية، فإن المجالس المحلية هي دليل على التقدم و"أسرلة" الحياة اليومية الجولانية وطرق إدارة شؤون البلدات والأراضي، وهي المؤشر الأساسي لنجاح مشروع التحضّر الاستعماري الذي يحاول جعل المجتمعات المحلية "متحضرة" - بمفهوم أن تصبح نسخة منه. كما جاء مثلاً على ألسن المرشحين من ربط الانتخابات مع الحقوق الديمقراطيّة للترشّح للرئاسة(20). في هذا التأطير، المجالس المحلية وتحديداً التي تتأسس بواسطة انتخابات هي تمثيل للنظام، وللتقدم والاهتمام في البلدة ومصلحتها، وبالتالي فإن مقاطعة هذه الانتخابات أو معارضتها وفق ادعاء المنظومة الحاكمة هي دليل على الهمجية، والوطنية العمياء، وإنكار جميل الكيان المستعمِر وخيانته، أو الغباء والسذاجة. نجد هنا توظيف جديد لخطابات قديمة تؤطر المجتمعات المستعمَرة على أنها ذكورية بجوهرها وقامعة لنسائها و"الأقليّات الجنسية" كمبرر وغطاء لاستعمارها و"تحضيرها" و"إنقاذ" النساء فيها[8]. ونلاحظ مثلاً التشديد على الصعوبة بأن تترشح امرأة في الانتخابات في الجولان، في ذات المقالات التي يُذكر فيها أنه في جميع الدورات السابقة في الانتخابات حملت جميع القوائم أسماء نساء، ويشار إلى اقتباسات مباشرة من مشرحات يقلن أنهن ترشحن ولم يتلقوا معارضة مجتمعية على أساس كونهن نساء. من المهم توضيح أن النقد هنا هو على استخدام المغالطات كآلية لتبرير الاستعمار، وليس للقول أن البنى الاجتماعية في قرى الجولان لا تقمع النساء أو تخلوا من الأنماط الذكورية والأبويّة القامعة. في هذه الثنائية التي تتكون، مقابل الانتخابات للمجالس المحلية التقدمية ووجود نساء كإثبات لهذا التقدم والتنوّر، يكوّن النقيض وهو معارضة الانتخابات والتي حسب هذه المغالطات الخطابية تُثبت أنّ سكّان الجولان همجيّين وبدائيين وذكوريين، لأن معارضة الانتخابات مبطن فيها معارضة التمثيل النسائي(20,22).
يتم تأطير المجتمع الأصلاني وفق هذا التوجه على أنه مكوّن من أفراد ضعيفي الشخصية، مسلوبي الهويات والقيم والمبادئ، ولا تعرف العيش إلّا من خلال تتبّع الآخرين وأوامر القياديين وأصحاب القوة. ينسب مثلاً سبب "عدم تعاون" المجتمع المحلّي مع المجالس والعمليّة الإنتخابيّة، للخوف من المقاطعة الدينية، أو في بعض الأحيان تنسب مقاطعة الإنتخابات للرغبة بإثبات الولاء لنظام الحكم في سوريا، أو قراءة عدم تقديم سكّان الجولان ولائهم لدولة الاحتلال على أنه خوف من فكرة إعادة الجولان للدولة السوريّة يوماً ما ويتم محاسبة السكان على هذا، أو أي سبب أخر يتجاهل كون معارضة المجالس المحليّة مبدئية وحقيقية. وفق رؤية هذه الخطابات، يُقسم المجتمع الجولاني إلى قسمين، الوطنيين المتطرفين الذين يمارسون الضغوط على السكّان ويوالون سوريا ورجال الدين من جهة، ومن جهة أخرى، "الساذجين الأتباع" الذين يخافون ويُمارس عليهم ضغط ولهذا يقاطعون الانتخابات والتصويت. بالتالي، بالنسبة للمستعمر فإن التقسيم في رؤيته لسكّان الجولان يكون إما العدو اللئيم والمواجه للكيان المستعمر والذي يجب ضبطه، ومعاقبته أو تصفيته، وبين العدو الساذج والضعيف والذي يواجه الاحتلال بعد أن تم التغرير به، والذي إن تم إغراءه وتطمينه أنه لن يؤذيه أحد إن أعلن ولاءه للمنظومة الاستعمارية، فسوف يعلن ولائه لها بالتأكيد. نرى أن قراءة المنظومة في الحالتين تعتبر المجتمع المحلي عدو للكيان المستعمر يجب إدارته - من خلال الترغيب والترهيب - بطريقة تضمن الأرض والسيطرة على الموارد.
ما نراه هنا هو أن الخطاب الحالي الذي يعتمد عليه المرشحون والداعمون لإجراء الانتخابات المحليّة حول طيب نيّتهم ورغبتهم في خدمة بلدهم وكون الانتخابات مدخل للتطور والتحضّر هو خطاب خاطئ ومضلل، وهذا لأن نموذج الحكم بنيويا يجبر الحكّام على ممارسة "الفساد" وزيادة أعبائهم والمسؤوليّات الملقاة على عاتقهم دون توفير الموارد والأدوات الكافية لتلك المجالس لإيجاد حلول حقيقيّة وجذريّة. عادة ما يجد الرؤساء أنفسهم في هذه المواقف بشكل متكرر لأنها جزء من مبنى النظام. ما يمكن مشاهدته من التجارب الأفريقيّة التي تم ذكرها، هو سرعة فشل وتقلب وتبدل هؤلاء الرؤساء على مدار التاريخ وفق ما يخدم المنظومة الحاكمة، مما يعكس كارثية هذه النماذج وكونها فاسدة في جذرها بغض النظر عن معتقدات أو نيّة فرد أو مجموعة ما. كما نرى مثلاً أن جميع الرؤساء الذين تمردوا على أوامر المنظومة الاستعمارية تاريخيّاً تم تصفيتهم أو بأقل تقدير استبدالهم بمن يخدم هذه المصالح وبالتوازي يحافظ على توازن القدرة على السيطرة على السكان وخدمة المستعمر(05).
علاقة الإنتخابات بضم الأراضي والاستيطان
التوجّه الثالث الذي يبرز في خطابات المستعمِرين يرى بالمجالس المحلية آلية لضم الأراضي والاستيطان فيها. يمكننا مثلا ذكر إحدى القضايا المركزيّة التي دائما ما ترافق البلدات العربية وهي قضايا حد التوسع العمراني والمماطلة في إصدار رخص العمار أو السيطرة على مناطق واسعة حول البلدات من خلال إعلانها "مناطق خضراء"[9]. بعد مراجعة عدد لا بأس به من الخطابات والمخطّطات الموثّقة لمفكرين وأكاديميين وبروتوكولات اجتماعات لأجسام حكوميّة مثل الكنيست ولجان التخطيط والبناء وغيرها، تبينت بعض التيارات السياسية والفكريّة التي تتعلّق بضم الأراضي والاستيطان في الجولان، وطريقة قراءة المستعمرين للظروف السياسية والاجتماعيّة في الجولان. برزت ثلاثة مجموعات من الدوافع أو التيارات الفكرية التي تؤسس هذا التوجه. أيديولوجياً، اعتبَر المشروع الصهيوني الجولان السوري جزء من الأرض الموعودة. عسكرياً، اعتبره بقعة استراتيجية أساسية وضرورية، تحديداً ضد الجيش السوري والخطر الذي من الممكن أن يشكّله عليه في المستقبل. على سبيل المثال كما جاء على لسان وزير الدفاع السابق بيني غانتس "لن نتنازل أبدا عن الجولان. بل على العكس سوف نطوّره ونتوسّع أكثر، ويجب تسخير الولايات المتحدة والمجتمع الدولي للعمل من أجل المصالح الأمنية الإسرائيلية في القطاع الشمالي"(28). أما على الصعيد المادي، يعتمد الكيان على الجولان كأحد مصادر المياه المركزية بالنسبة له، كما بدأ في السنوات الأخيرة بإنشاء مشاريع تنقيب عن النفط وبناء حقول واسعة من التوربينات لتوليد الكهرباء(16). يمكننا استنباط التيارات الفكريّة المختلفة مثلاً في جلسة الكنيست ال175 للحكومة الثالثة عشر عام 1994، عندما كان هناك حديث حول سلام/تطبيع محتمل مع سوريا(16). بإمكاننا تقسيم الخطابات التي وظفها البرلمانيون إلى 3 تيارات أساسية، تتشارك بأنها تمثل تيارات للفوقيّة البيضاء والهادفة لتعزيز وضمان وجود الكيان الاستعماري وتوسعّه.
المجموعة الأولى تمثل التيار الليبرالي-براغماتي، والذي يمثل أفراداً يسعون إلى ضم الجولان لهدف الأمن والأمان. بالتالي، إذا كان هناك تطبيع (سلام) مع سوريا، يكونون مستعدين للاستغناء عن الجولان، إرجاع الأراضي والانصياع للقانون الدولي (مثلما حدث مع سيناء المصرية). وفق ادعائهم، لتحقيق السلام مع سوريا، عليها أن تكون ضعيفة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، ليصبح من الضروري تطبيع العلاقات مع إسرائيل. لذا، اخترنا لهذا التيار الاستعماري تسمية "الفوقية المجمّلة". يمكننا الاستنتاج أن هذا التيار يدعم الحكم غير المباشر لأن تمسكه في بالأرض جاء نتيجة لأسباب براغماتية وعملية، ورغبته في خفض التكاليف قدر المستطاع حتى إيجاد حل سياسي لهذه الأرض وإعادتها مع سكّانها لسوريا وهم "متحضرين وجاهزين لحكم أنفسهم".
المجموعة الثانية هي توجه الاستيطان الأيديولوجي والذي يمثل أفراداً يرغبون الاحتفاظ بالجولان لأنهم يعتبروه جزءً من الأرض الموعودة. كماء جاء على لسان عضو الكنيست يئير لابيد مثلاً:"هضبة الجولان هي جزء لا يتجزأ من دولة إسرائيل. إنه رصيد استراتيجي ولدينا حق تاريخي فيه. إسرائيل لن تعيد مرتفعات الجولان أبدا. هي لنا، وستبقى لنا"(24,28). بالتالي، بالنسبة لهم، فإنهم يرغبون بالتمسك بأراضي الجولان مع أو بدون سلام وتطبيع علاقات مع سوريا. بالنسبة لهم، التطبيع مع سوريا يأتي بالشكل الحديث الذي رأيناه في اتفاقيات التطبيع في صفقة القرن - سلام مقابل سلام، بدلاً من سلام مقابل أرض. بالتالي، حسب توجههم، لكي يحتفظوا بالجولان على الرغم من أنف سوريا ونظامها وأهلها، فإن على سوريا أن تكون ضعيفة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً. لذا، سمينا هذا التيار الاستعماري "الفوقية العارية". تؤمن هذه التيارات بضرورة الإبادة والتهجير الجماعي، ليتمكنوا من تحقيق الفانتازيا التي تقول بأن الأرض الموعودة هي أرض بلا شعب لشعب الله المختار.
أما المجموعة الثالثة، فهي تمثل تياراً يفرض واقعاً ويضع الشعوب والأنظمة تحت أمره. في هذا التوجه، يرى الأفراد أن بين ثنائية السلام والحرب هناك حل وسط: الوصول لقدرة صد وتهديد العدو لكي لا يشن حرباً، والحصول والحفاظ على وضع راهن من زيادات وتكاثر المستوطنات والمستوطنين، ليمشي حسبه التاريخ. في الحل الوسط هذا يمكن فرض أمر واقع دون المخاطرة بخسارات الحرب (فناء أو خسارة أرض) أو بخسارات السلام (استغناء عن أرض أو الحفاظ على القانون الدولي). فحسب توجههم: "مستقبل منطقة لا يتحدد حسب السياسة، انما حسب المستوطن"(16). في هذا الوضع الراهن، يوهم الأشخاص الذين يتبعون هذا التوجه أنفسهم أن بإمكانهم"أكل الكعكة والحفاظ عليها كاملة". في هذا التوجه، على المستعمر الحفاظ على أراضي الجولان، زيادة المستوطنات فيها لعرقلة أي مسار سياسي، والانتظار قليلا - فإن، حسب قراءتهم، من الواضح أن سوريا تضعف سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، لتصبح محتاجة إلى السلام مع الكيان (أو لتصبح غير مهمة بما فيه الكفاية ليكون هذا السؤال قائم أساساً). لذا، سمينا هذا التوجه "الفوقية الملتوية".
ترى هذه التوجهات أن الحكم المباشر ضروري لكي لا يقع المستوطنون تحت حكم محلي عربي (لا سمح الله)، ولكي يضمنوا تفوقهم القانوني واستمرار استيلائهم على الأراضي واستعباد المجتمعات المحلية (مثلما كانت محاولات لتكوين وضع شبيه في مستعمرات بريطانيا في أفريقيا الشرقية في نهايات ال 1920(01)). وفعلاً، إحدى ركائز خطاب الأشخاص والمجموعات المناهضة للاستعمار في الجولان هي أن مشروع الانتخابات نظريًا والمجالس المحليّة كذراع تنفيذيّة محليّة فعليًّا، تسعى للسيطرة على التمثيل السياسي للمنطقة، أي السيطرة بشكل "قانوني" على الموارد وسلطة القرار على المنطقة ومصير سكّانها. كل هذا يأتي تحت غطاء خدماتي، أي الخدمات الأساسيّة التي تقدمها هذه المجالس للسكان وتملك السلطة على جودتها وكيفيّتها، وإمكانيات استخدامها للإبتزاز وعقاب من يرفض الخضوع أو يتمرد على القوانين ولا يقبل هذا الواقع الذليل. يحاول الوسطاء أو الرؤساء عادةً استخدام هذا الغطاء لشرعنة دورهم وتبرير كون المجلس المحلّي هو النموذج الوحيد لإدارة الحياة، ودونه تحل الكوارث ولا يتلقّى السكّان أي خدمات، في حين يُستخدم نفس النموذج وبالتوازي عند تمرد أفراد أو مجموعة ما، لفرض سياسات العقاب الجماعي مثلاً وابتزاز السكّان بهدف الترهيب والتخويف. بهدف الحفاظ على مناصبهم وسلطتهم في ظل الرفض المجتمعي لهم، يتوسع دور الرؤساء المحليين من جباية الضرائب إلى الرقابة والتنسيق الأمني مع المستعمر(02). حيث يصل الوسطاء والحكام المحليين إلى مناصبهم من خلال العنف والتسلط والدعم من الكيان المستعمر(05)، يمكننا هنا مثلاً تذكر العنف الذي مورس على المتظاهرين في الاحتجاج ضد الانتخابات عام 2018. في هذا المبنى، يستطيع المجلس المحلي أو النخب التي تترأس الحكم المحلي إعطاء الختم الأخير والذي يضفي على سرقة الموارد وبرامج التربية (والأسرلة) الاستعمارية غطاءً من الشرعية والديمقراطية والموافقة.
سذاجة هذا الخطاب تكمن في ثنائيّة ما يسمونه الشق الخدماتي البحت أو بالمقابل الشق السياسي البحت، فتبتعد خطابات هؤلاء الرؤساء وحملاتهم الانتخابيّة عن أي كلمات سياسيّة أو خطابات مواجهة مع السلطة، إنما في أقصى درجاتها نرى مثلاً تعاطف الرؤساء مع ضحايا حرب ما، أو الإكتفاء بإدانة حدث ما وإطلاق دعوات إنسانيّة مضحكة ومبتذلة ومتنوعة. تختزل هذه الثنائية فهمنا لواقعنا وتقسيمه وفق سياسة سياسي أو خدماتي، مما يتجاهل أن جميع مجالات وسياق هذه المجالس وسياق تأسيسها وقوانينها، هو سياق سياسي بامتياز حيث أن القضايا الإجتماعيّة ومستوى معيشة السكان وأمانهم وتوفير الخدمات لهم وغيرها هي قضايا سياسيّة بامتياز، وسعي الاستعمار للسيطرة على جميع هذه القطاعات والمرافق يدل على قضيّة سياسية وإنسانيّة بحت. تدل سذاجة هذه الثنائية، واعتماد المستعمر بفوقيّة على تذويت السكّان لهذا الخطاب الذي يحاول بناء فصل وهمي أو حتى تغيير معاني مصطلحات ومفاهيم مثل "السياسة" والتلاعب بها. نتيجة لغطرسته واستعلائه، يظن المستعمر أن بعد تكوينه للثنائيات الوهميّة (مثلاً ثنائيّة الشق الإجتماعي والشق السياسي)، سوف تنطلي على الأفراد دون أن تستوقفهم أو يتم تفكيكها.
نشهد أيضا ضمن الخطابات الحاليّة لمجموعات تناهض مشروع الانتخابات في قرى الجولان السوري المحتل، نقطة أساسيّة بما يتعلّق بمشاريع الأسرلة الموجّهة للجيل الشاب أو لطلاب المدارس. هذا ليس بالأمر الغريب، حيث أنه وفق المفاهيم والقيم الاستعماريّة يتم تركيز المشاريع الاستعماريّة الخبيثة على هذه الأجيال بهدف كي الوعي ومحو رواية السكّان الأصليين مع مرور السنوات. من المهم التعمق في استراتيجيات عمل هذه المشاريع بهدف فهمها ومواجهتها، وهذا ما يفعلوه بالفعل في لجان أولياء الأمور في الجولان مثلاً. ما لا يقل أهميّة عن هذا التعمق والفهم بهدف المواجهة، هو أيضا فهم الاسقاطات المسبقة وتذويت السكّان المحلّيين للمفاهيم الإستعماريّة، على سبيل المثال تذويت المفاهيم الاستعماريّة حول "الشباب"، والتي تسعى لإضافة أو إزالة صفات سياسية ما لمفهوم "الشباب" كآلية للسيطرة على المجتمع[10]. بالتالي، من الضروري بالتوازي مع العمل على مواجهة مشاريع الاستعمار في مساحات مثل المدارس والجامعات والأماكن العامّة وغيرها، مواجهة عمل الاستعمار الثقافي المبطن في ثقافات ووعي الشعوب المستعمَرة، والابتعاد عن خدمة مصالح المنظومة الاستعمارية. يمكننا هنا الاستنتاج بشكل واضح أن ثنائية السياسي-الخدماتي وخطاب المنظومة الاستعمارية عن أن المجالس المحليّة "ليست إلا خدماتيّة بحت" هو ادعاء مضحك، فكيف لنا أن لا نعتبر حقوقنا والخدمات الأساسية وأجهزة التعليم والإدارة قضايا سياسية بامتياز؟ وكيف يمكننا تجاهل أن ما تنفذه هذه السلطات ليست إلا مخططات المنظومة الحاكمة وأجنداتها التي تسعى بشكل واضح إلى إبقاء السيطرة بأقل تكاليف ممكنة فقط؟
4.تفكيك الوضع الراهن وتخيّل مستقبل آخر
4.1 تفكيك الاستعمار
في ظروف سياسية استعماريّة، نقطة الإنطلاق والمعطى المتفق عليه هو أن الهدف الواحد والوحيد للنظام الاستعماري هو السيطرة على السكان الأصليين بهدف سرقة الأرض والموارد والحفاظ على مصالح الاستعمار. يمكن فهم أن أحد أسباب نجاح عملية الانتخابات هي الفراغ المجتمعي والثقافي الذي تولده منظومة الاستعمار من خلال عنفها. من المهم الإنتباه إلى أنه بالإضافة إلى كون المنظومة استعمارية، فهي أيضًا رأسمالية، وبالتالي حتى عند النظر إلى طريقة عمل النظام المركزي تجاه المستوطنين، يكون التركيز في هذا النظام على المصالح الإقتصادية والعسكرية، وتبقى خدمات الصحة والرعاية المجتمعية مترهلة دون استثمار في الموارد المادية والبشريّة. ولعلنا رأينا هذا الترهل في أحداث كثيرة آخرها جائحة كوفيد-19 التي اجتاحت العالم وكيف أن الأجهزة الطبية في الدول الرأسمالية غير قادرة على التعامل مع هذه الحالات ولديها شح موارد كبير(15). ولذلك، لعله من السذاجة التوقع بالحصول على فوائد ما أو استقرار وأمان ووفرة خدمات بدلاً من المزيد من السيطرة والخضوع وخسارة الحقوق والموارد. تَحمِل الانتخابات في طياتها العديد من الخداع والمغالطات التي تجعلها أداة ناجعة لخداع السكان الأصليين. من المهم عند تخيل البدائل الحذر من الخلط ما بين استراتيجيات المنظومة الاستعماريّة لاستخدام العادات والتقاليد والمؤسسات المحليّة للسيطرة، وبين سعي السكّان المحليّين لتحرير هذه الأدوات أو تدمير ما لا يخدم مصالحهم، أي أنه ليس كل ما تم استخدامه كأداة استعمارية تحوّل ملكيته للمنظومة الاستعماريّة.
على سبيل المثال، عندما نذكر استغلال خطاب الخصوصيات للتفرقة بين البلدات والمناطق المختلفة والهيمنة على جميع مرافق حياة السكان، لا نقصد محو الاختلافات والفروقات بين الأفراد، أو تخيل مستقبل جميع الأشخاص فيه متجانسين في الفكر والتصورات والرغبات، ولكن بالتأكيد لا نتخيّل مستقبلاً شبيهاً بالوضع القائم فيه تستخدم هذه الإختلافات كذريعة للتفرقة والفتن على أساس عرقي وإثني وطائفي وغيرها من التقسيمات العنصريّة، ويمنع التواصل والتعلم من هذه الفروقات، والبناء عليها وبناء التحالفات والتطور والنمو الإقتصادي والفكري. من الملفت للنظر في الإختلافات الشكليّة والفروقات بين النماذج في مناطق متقاربة كما هو الحال في الجولان السوري المحتل وفي الداخل الفلسطيني والضفة المحتلة وغزة، هو التركيز على خطابات معيّنة عن غيرها. تمكننا هذه الفروقات بالإضافة إلى بحث التجارب التاريخيّة والعالمية من فهم نيّة المستعمر وما يتم البناء والتحضير له من مشاريع لكل منطقة. حتى عند النظر إلى الفروقات بين المرشحين للإنتخابات في كل قرية من قرى الجولان وخطاباتهم وما يعدون به في حال تم انتخابهم، كما عند النظر لأي نوع من أنواع المراكز الحكومية التي تم بناؤها في أي قرية، يمكننا فهم ما تحاول منظومة الاستعمار استغلاله من فروقات وخلافات تاريخية أو فكرية ثقافيّة والبناء عليها.
في المحاور والأسئلة المطروحة في الحواريات والورشات المختلفة التي تتم في قرى الجولان، يكون فهم وتصور مباني السلطة المحليّة عادةً وفقًا لأفعالها والواقع المعاش، قبل الإنطلاق من والإنكشاف للمعرفة النظرية والتجارب التاريخية الاستعمارية، وفهمها كمباني سلطة استعمارية. ولهذا يبقى النقاش عالقاً في الخصوصية المحلية وفي الإبتعاد عن التصويت في الإنتخابات بسبب العديد من السلبيات التي تعود بها على المنطقة، وبعضها أسباب رأيناها في تجارب عديدة وذكرت في مسح الأدبيات. ما نلاحظه في الأدبيات الصادرة عن أبحاث المستعمرين وألسنتهم هو الاستعلائية والفوقيّة في معرفة الطرق الأنجع لإدارة الحياة والتحكم بنظامها ومصائر الأفراد في ظروف الاحتلال، وبالتالي يتفاخرون بقدرات هذه النماذج على الإجابة عن سؤال حكم المستعمرات والمستَعمرين وإخضاع السكان المحليين بهدف السيطرة على مواردهم وتغيير ثقافتهم ونظام حياتهم بما يتلاءم مع المستعمرين. أما من جهة سكّان الجولان، فكثيرا ما تبقى الحوارات والنقاشات في مكان متردّد، وفي حالة تساؤل وعدم ثقة في اختبارنا للتجربة وفي معرفتنا المكتسبة حولها وتقييمنا الواقعي والدقيق لها. بالرغم من مرور مئات السنوات، ما زالت نماذج الحكم الاستعمارية شبيهة بتلك التي تأسست حسبها، رغم التعديلات الشكليّة التي أجريت عليها على مدار السنوات وعبر المناطق الجغرافية المختلفة. ولهذا من السهل فهم أهداف وطريقة عمل هذه النماذج بالرغم من عمليّات الخداع التي تحيكها، وهذا يسهّل أيضا البحث عن تجارب أخرى في سعينا لبناء المعرفة عن الحكم المحلي وبناء النشاطات الثقافية والسياسية المختلفة التي قد تساعدنا على تخيل البدائل.
بالعودة إلى أسئلة المستقبل والاستقرار التي تساءلنا حولها في بداية النص، من الممكن القول أن ما تسعى إليه المجتمعات والأشخاص عادة، هو العيش الكريم وضمانات لمستقبل مستقر ومزدهر يعمل فيه المجتمع والمجموعات بتكافل دون إكراه أو إخضاع، وأنهم لا يطمحون أبداً لمستقبل متوقّع فيه منهم القيام بواجبات مثل دفع الضرائب وعدم تلقّي أدنى الحقوق والخدمات. عند النظر بتعمّق إلى جوانب مختلفة من أساسات المجالس المحلية كنماذج حكم ومحاولة فهمها وتخيّل الأسئلة التي تنبثق عنها، يمكّننا من خوض الحوارات المجتمعيّة الضرورية لتشكيل القاعدة الفكرية والممارسة المواجِهَة لأنظمة الحكم القاهرة وأهدافها التي تسعى إلى تحقيقها من خلال أشكال الحكم المختلفة، ومنها المجلس المحلي. من المهم الاستثمار في استمراريّة الحوار وبلورة الوعي الجماعي حول القضايا المجتمعية المختلفة وطريقة عمل هذه المؤسسات وكيف أصبح سكّان الجولان السوريين متعلقين في الخدمات التي تقدمها. تساهم هذه الحوارات في بناء تصوّرات وتخيّلات مستقبلية لنماذج مختلفة لا تتأسس على الإخضاع والسيطرة كأداة أساسية.
لم يكن الهدف من كتابة ونشر هذه المادة تقديم إجابات وحلول نهائية أو نظريات ونماذج بديلة، إنما كان الهدف التركيز على البحث عن الأسئلة والأفكار التي لا تُطرح في النقاش العام حول مشروع الانتخابات في الجولان السوري المحتل. كما أن استحضار السياق التاريخي والأدبيّات حول هذا الموضوع كان بهدف الإشارة إلى كون تجربة السكّان المحليين في الجولان ليست التجربة الاستعمارية الأولى. من المهم أيضًا أن لا نعتبر هذه المادة والمسح التاريخي بشكل عام نهايةً للحديث والنقاش، إنما هي فقط البداية نحو المساهمة في تكوين حوار جماعي لنقد وتطوير المفاهيم المذكورة وتخيل واقع مختلف مستقبلاً.
4.2 البناء المتضمن في التفكيك: الرعاية الجمعية كمثال حي ومعاش
إن رفض هذه الانتخابات مهم وهو أحد الأدوات الفعّالة لإبطال شرعيتها وعدم الاعتراف بها، ولكن من المهم الحذر من اعتبار رفض هذا المشروع هدفاً نهائياً وكافياً، مما يُبقي النقاشات عالقة لا يتم التعمق فيها في فهم كيفيّة عمل هذه المنظومة. إن الرفض هو أداة أو مرحلة ضمن مراحل عديدة ومختلفة لسيرورات التحرر، والتوقف عند الرفض كهدف نهائي، يشير إلى البقاء في موقف الحتميّة - بما أن اليوم سوف يكون مثل الأمس وغدا سوف يكون نفس اليوم، ولن يتغير شيء، ما الجدوى من السعي للتغيير؟ يعزز موقف الحتمية هذا إعادة بناء لثنائية وفقها إما أن نخضع لحكم الاستعمار "النظامي"، أو نُترك ليحكمنا قانون الغابة والفراغ وعشوائية مخيفة. نتيجة لهذا الفهم الذي يتخذ البنى القائمة كواقع مفهوم ضمنياً وأنها المنقذ الوحيد، وبسبب القيود المبنية مسبقاً فيها، لا نتمكن من خوض الحوارات وتخيل البدائل ضمن هذا السقف المحدود بشكل ممنهج ومقصود. بينما عندما لا نتخذ هذه المباني والمفاهيم كأنها مفهومة ضمنياً، نتمكن من التعمق في تجاربنا والحوارات والتطور والتعلّم وتخيل بدائل تخدم مصالحنا ولا تسعى للسيطرة على أو سلب الموارد والأرض. في هذا السياق تأتي هذه المادة لتكون بمثابة آلية وجزء من هذا العمل التراكمي والضروري الذي يساعدنا على "الصمود" بشكل أفضل في وجه استراتيجيات المنظومة الحاكمة وأهدافها. بالإضافة إلى ذلك، من المهم أن نتذكر السعي للأهداف بعيدة الأمد، أي عدم التوقف عن العمل على انتزاع حريّة تقرير المصير والعيش الكريم دون إخضاع أو ظروف احتلال أو حكم عسكري أو غيرهم.
فاقمت السياسات النيوليبرالية الرأسماليّة التي تبنتها الحكومات المختلفة في العالم، بوحي من الولايات المتحدة وعموم أوروبا خلال الأربعين عاماً السابقة، فاقمت من إهمال القطاع الخدماتي والنظام الصحي وقوانين حماية البيئة والطبيعة، وساهمت في زيادة عدم المساواة والعدل بين المناطق والدول. تحاول هذه السياسات بشكل مستمر تطبيق "منطق السوق" على طريقة إدارتها لحياة الأشخاص، وبالتالي تضع الربح المالي ومصالح بعض الشركات الخاصة والأغنياء فوق كل شيء، وبالتحديد السكان والخدمات الصحية والإجتماعية التي يتلقونها، فيستثمر النظام في المراقبة والأمن لحماية مصالحه والتركيز الأساسي يكون على الشركات الرأسمالية ومصالحها ورضاها.
بالمقابل تستخدم المؤسسات والشركات المختلفة الرعاية للترويج لنفسها أو كغطاء لخداع المجتمعات وكسب شرعيتها، بينما على أرض الواقع لا تقدم نماذج لخدمات فعالة، بل حتى مع مرور الوقت تستهلك وتفكك مفاهيم الديمقراطية ودولة الرفاهية. لتطبيع هذه الحالة تشجع المنظومات الحاكمة قيم المواطن المثالي مثل أنه مستقل ويتمتع بالإكتفاء الذاتي وتشجّع تذويت فكرة أن العائلة هي من المباني الوحيدة القادرة على تقديم الرعاية، فتتخلى بهذا عن مسؤولية تحقيق وعودها بتقديم الاستقرار والرعاية للجميع، وتعتبر الإهمال والفشل في هذه القطاعات إما مسؤولية الأفراد الذين "أخفقوا" بأن يكونوا مواطنين مثاليين، أو في بعض الأحيان أن الفشل في تقديم الرعاية للسكان هو أضرار جانبية على درب التحضر والتطور (أي إعطاء الأولوية لربح الشركات والأقليّة الحاكمة) ولهذا لا يتم البت فيه. نلاحظ أيضا أنه تاريخياً من خلال فهم المنظور الذكوري للرعاية، والذي عمل دائماً على ربط جميع الأعمال التي تفهم على أنها "رعاية" مع محدوديات جندريّة تفرضها، أو بكلمات أخرى يشمل أعمال الرعاية ضمن سمات نسائية أو "أنثويّة" ويلقي هذا العبء على النساء بشكل عام، وبالتالي يبرر إهمال هذا القطاع وتصور المجتمع له، والرواتب المتدنية التي يتلقونها العمّال في هذا المجال عن طريق اعتبار أعمال الرعاية على أنها "أعمال غير مجدية" أو ثانوية في سلم الأولويات الحكوميّة.(15)
في مناخ مجتمعي يسوده عدم الاهتمام، وتتقلص فيه المساحات العامة للنشاطات الثقافية والترفيه أو العمل على مشاريع تعاونية ونقاش الأشخاص لقضاياهم المشتركة بهدف الإشتراك في عملية اتخاذ قرارات ديمقراطية، وتهيمن فيه آلية إلقاء اللوم على الأفراد أو على "الآخرين" بدلاً من التعمق في تركيبات القضايا المجتمعيّة بهدف إيجاد حلول جذرية، لا نستغرب صعود حكومات غير مؤهلة وعنصريّة وفاشيّة حول العالم، أو ما يختزل أحياناً تحت تعريف "مجموعات يمينية متطرفة"، ونمو شعبية خطاباتها الشعبوية الخالية من المضمون والتي دائما ما تعتمد على كلمات مثل "الموضوعية" و "قول الصراحة" لتبرير أفعالها العنيفة. بدلاً من تشجيع هذا الحكومات الشعوب على التقارب، تبني الحدود وجدران الفصل العنصري وجميع الوسائل التي تقطع تواصل المجتمعات. تنمو الفردانية في هذه الظروف المعيشية وينمو معها الشعور أن الأمان الشخصي للأفراد مهدّد وهش وبالتالي يواجهوا صعوبة في الرعاية بأنفسهم وفي تقديم الرعاية للآخرين. من خلال احتكار الحكم المحلي والمركزي تقديم الخدمات والاهتمام بالسكان وتمييع مفاهيم الرعاية الجمعية والذاتية، ينسى الأفراد أنهم قادرون وحتى مجبرون على تقديم الرعاية لبعضنا البعض، وبالتالي لا يتولّد أي شعور بالمسؤولية أو تقصير ما، وتتوقف حتى محاولات تخيل البدائل المجتمعيّة الممكنة. يؤدي هذا المناخ السلطوي والشمولي والقومي إلى اختزال مفهوم الرعاية واعتماد السكّان لتلبية حاجاتهم من الخدمات على أشخاص مقربين يشبهونا أو من عائلاتنا بشكل حصري، ويساهم في تطبيع التخلي عن مسؤولياتنا في تبادل الرعاية في مجتمعاتنا ويفاقم عزلة الأفراد، والعيش في مجتمعات الرعاية فيها معدومة وهي مسؤولية مباني حكومية أو بعض الشركات الخاصة فقط. (15)
إن النظام النيوليبرالي الرأسمالي يكاد يخلو من لغة الإهتمام الجمعي والصحّي والتعليم وغيرها من مصطلحات دولة الرفاه الإجتماعي والديمقراطيّة التي تم تمييعها وإفرغها من معناها. في هذا السياق الذي تستخدم المنظومات الحاكمة اختزال مفاهيم الرعاية كآلية بهدف وضع الربح المادي ومصالح الشركات الرأسمالية فوق مصالح السكان وصحتهم وما يتلقونه من خدمات، يجب الاستثمار في ممارسة الرعاية وتوسيع تصورنا لهذا المفهوم بشكل مختلف عن ما تعرضه الأنظمة الحاكمة - مثلاً أن الرعاية هي عمل "للنساء فقط" أو يقتصر تقديمه على العائلة المقربة أو ربما نتخيل عند الحديث عن الرعاية من يعملون في مهن تقدم الرعاية الصحية الجسدية أو النفيسة فقط، وأن ليس لسائر أبناء المجتمع أي مسؤولية في تقديمه للآخرين، حيث تفهم الاستقلالية في العيش الكريم والديمقراطية في عملية اتخاذ القرارات وتلقي الرعاية، على أنها فردانية فيها الأشخاص لا يعتمدون على بعضهم البعض بأي شكل من الأشكال. ولهذا يجب عدم إهمال الرعاية أو استغلالها كآلية ضد أشخاص معينين، وأن نرى الرعاية في جميع مرافق حياتنا اليومية ونرى أنفسنا شركاء في إعطائها وتلقيها. الرعاية هي نشاطاتنا وقدرتنا الشخصيّة والجمعية على توفير الرفاهية للأشخاص والشروط والبيئة الحاضنة والتي تحتوي على كل ما هو مطلوب ليتمكنوا من الإزدهار، وبالتالي ازدهار البيئة والحياة بشكل لولبي، ويتضمن عملاً في الحقل كما حساً عاطفياً واهتماماً شخصياً من قبل أفراد المجتمع، ويتضمن جانباً سياسياً والذي يعبر أيضا عن الحاجة لمواصلة التحرك والنشاط في سبيل تغيير عوالمنا.
تُمكننا ممارسة إعطاء وتلقي الرعاية من الإعتراف بأننا متعلقين ببعضنا البعض لتلبية حاجاتنا، وأيضا من التمرن على التعبير عنها وتخطي تعقيداتها والإصغاء لاحتياجات من حولنا، مما يساهم في توسيع مفهوم الرعاية ليشمل البيئة التي نعيش فيها، أي أنفسنا ومن حولنا، وعلاقتنا مع الطبيعة وما يضر بها وما يحميها ويحمينا، أو حتى الحيوانات وكل ما له علاقة في ازدهار الحياة واستمراريتها ورفاهية المجتمع وراحتنا النفسية والجسدية. أحد الأمثلة التي يمكن الاحتذاء به هنا هو نضال سكّان أميركا الأصليين في "ستاندينج روك" ضد إقامة مشاريع أنابيب النفط الملوّثة للماء والبيئة عامةً، حيث يظهر بوضوح قرب المجتمعات من البيئة والمحيط وتوسيع مفهوم القرابة ليشمل الطبيعة والتكاتف في حمايتها. مثال آخر هو الأحداث الأخيرة في الجولان في محاولة إقامة مشروع توربينات الرياح وتدمير المحيط وشكل الحياة فيه، فقد إلتفّ السكان حول محاربة هذا المشروع وحماية أنفسهم والبيئة في واقع تعمل فيه المنظومة الاستعمارية على تدميرها.
إحدى المعضلات التي تواجهنا عند التفكير في تكوين بدائل بعيدة عن المجالس المحليّة، هي كيفيّة مواصلة تنظيم وتقديم الخدمات التي عادة ما تحتكرها بشكل ممنهج المباني الحكومية الاستعماريّة. كما رأينا في مسح الأدبيات، إن احتكار وسرقة الموارد من قبل المنظومات الاستعمارية وإعطاء بعض الفتات لرؤساء أو مخاتير محليين بهدف كسب ولائهم هي عمليّة ممنهجة وليست بمحض الصدفة. ولهذا نبقى بشكل ممنهج محتارين أمام هذه المعضلة دون امتلاك الموارد اللازمة لتطبيق الأفكار وما يمكن تخيّله كبديل، من ناحية أخرى، لا تسمح هذه المنظومات لقيادات محليّة تملك المعرفة والخبرة لتولي الحكم إنما تسمح لهؤلاء الذين يعملون على تحقيق مصالح المنظومة بشكل حصري. إذن تجردنا المنظومة الاستعمارية بهذه الاستراتيجية من الموارد والمعرفة اللازمة لتكوين البدائل فنبقى معتمدين بشكل كامل عليها.
عندما نقارن حجم الضرائب التي يدفعها السكّان بالمقابل الذي يدّعي الحكم أنه يعطيه، نرى أن ثقل الضرائب لا يتلاءم كلّياً مع ما يتلقونه من خدمات، ولطالما عانى سكان الجولان من شح الخدمات وقلة جودتها، إن كان من جهة النظافة وتعبيد الشوارع المهترئة وشبكات الصرف الصحي الغير موجودة في الكثير من الحارات، أو من جهة الخدمات الصحية التي تجبرنا الدولة على السفر ساعة بأقل تقدير للوصول للمستشفى وإحباطهم محاولات إقامة مستشفى في الجولان وغيرها من الخدمات التي إما يقدمها المجلس بتقشّف وبصورة دون المستوى، أو يجب السفر لوقت طويل وإهدار الأموال من أجل الحصول عليها. تطبق الدولة قوانيناً لتخفيض الضرائب على المستوطنين ممن يسكنون بجوار ما يسمى مناطق حدودية، ولطالما لجأت لهذه الاستراتيجيات لترغيب المستوطنين بالسكن في هذه المناطق، لا نرى تطبيق هذه القوانين أيضا على القرى العربيّة في الجولان وغيرها الكثير من الإمتيازات والتصاريح التي يتلقاها المستوطنون حصراً ولا يتلقاها سكان الجولان. إن لم نكتفي في هذا التحليل "التقني" والذي يقارن الضرائب مع الخدمات، ونظرنا لتفاصيل الوظائف التي يقوم بها والخدمات التي يقدمها المجلس المحلي، بمحاولة لفهم كيف تستخدم كأدوات لابتزاز السكان المحليين بعد خلق فراغ إجتماعي سياسي، نرى أنه في الكثير من الأحيان استطاع المجتمع أن يصدّ محاولات الاستعمار متعددة الأشكال للسيطرة عليه وعلى موارده، وبشكل فطري لجأ إلى تفكيك وتوسيع مفاهيم الرعاية ولإعطاء الرعاية والخدمات من أبناء المجتمع لبعضهم البعض. بالنظر إلى طرق تأقلم الجولانيين مع محاولات الإخضاع والهيمنة على جميع مرافق حياتنا، يمكننا تعداد الكثير من النماذج والمحاولات التي نجح المجتمع الجولاني فيها بتخيل وبناء بدائل مقاومة للمشاريع الاستعماريّة ومضادة لها بحيث تخدم مصالح السكّان. فلنتأمل على سبيل المثال لا الحصر في ثلاثة جوانب أساسية من عمل منظومة الاستعمار: الإقتصاد، هندسة وتنظيم البناء، جهاز التعليم والنشاطات المجتمعية-الثقافية.
في الاقتصاد
يعتمد السكان على الدخل من عملهم داخل الجولان في قطاع الزراعة أو المطاعم والمقاهي أو السياحة أو المتاجر وغيرها من الوظائف. جميع هذه الوظائف متعلقة بالمنظومة الحاكمة بشكل مباشر، فهي من تهدد وتخفض أسعار المحاصيل الزراعيّة في الجولان، وتهدّد وتبتز الفلاحين بتصدير محاصيلهم وتركها لتكسد أو بيعها بأسعار زهيدة، نرى أيضا هيمنة المنظومة على كميّات المياه الهائلة الموجودة في الجولان وسرقتها، لا يتلقى المزارعون الجولانيون مياه ري المحاصيل إلا مرتين في الأسبوع وتُقطع باقي الأيام، بينما ينعم المستوطنين بالمياه يومياً ويتم شراء المحاصيل منهم والاستثمار في اقتصادهم المحلّي. أما في قطاع السياحة، فنرى استيلاء المستوطنين على جميع المرافق "السياحيّة" وجبي رسوم الدخول منها في جميع أنحاء الجولان، وحتى في شماله، فنرى استيلائهم على منتزه التزلج في جبل الشيخ وسرقة كل مدخوله، وتوظيف العمّال المحليين كعمال يتقاضون أجوراً زهيدة ومعاقبتهم عندما يطالبون بحقوقهم. وفي حين يغلق المستوطنون البوابة في مستوطنة نفي أتيف (جباثا الزيت المهجرة) عندما لا يريدون للسياح الوصول إلى قرية مجدل شمس وتنمية اقتصاد السياحة فيها على الطريق المؤدي إلى جبل الشيخ. كما يعتمد العديد من العمّال في دخلهم على عملهم في مجالات عدة خارج الجولان وفي الداخل الفلسطيني المحتل، مما يعني أن دخلهم أيضا مرتبط بشكل كبير بالاحتلال ومؤسساته ويمكن تهديد وابتزاز العمّال من خلاله.
في المحاولات المحلية لصد الاستعمار وتقديم الرعاية الجمعية في مجال الزراعة ، يمكن ذكر مثال خزانات المياه الكبيرة التي بناها سكان الجولان والتي تجميع مياه المطر لري البساتين والمزارع بشكل مستقل عن ابتزاز الدولة وقطعها للمياه والتي عملت الدولة لاحقاً على تركيب عدادات على هذه الخزانات لتغريم المزارعين ثمن هذه المياه وبالتالي يتم زيادة الأعباء وتقليل الفائدة من هذا المشروع، كما أنشأ السكان ما يشبه مصانع أو غرف كبيرة عبارة عن برادات لتخزين وتبريد محاصيلهم وتنظيم عملية بيعها وأسعارها بشكل تشاركي. كما استخدم السكان الأراضي والزراعة نفسها لمواجهة مصادرة الأراضي من قبل منظومة الاستعمار بذريعة أنها غير مستعملة ولا يملكها أحد. عمل السكان أيضا على فتح المجال لتصدير جزء لا بأس به من محاصيلهم للداخل السوري. من المفيد أن نتذكّر هنا أيضاً الإنتشار والإعتماد الواسع على اللجان الزراعية في الجولان. وفي مجال السياحة، نرى أنه على الرغم من جميع التضييقات على السياحة المزدهرة للجولان في الجولان خلال موسم الكرز والتفاح أو عند تساقط الثلوج بهدف التزلج أو المبيت، لا زال السكان في الجولان ينجحون إلى حد ما بالحفاظ على نسبة سياحة لا بأس بها، ويقدمون استضافة محليّة دافئة تجذب السياح وتنعش اقتصاد البلدات، تحديداً قرية مجدل شمس التي يمر منها الطريق المؤدي إلى منتزه التزلج في جبل الشيخ.
في الهندسة وتنظيم البناء
نرى سعي المنظومة الحثيث لتضييق الخناق على البلدات العربية من خلال عدم منح تراخيص البناء من جهة وهدم بيوت من ليست بحوزتهم تراخيص، ومن جهة ثانية من اعتبارها لكمية كبيرة من الأراضي على أنها "أراضٍ خضراء" يمنع البناء فيها. بالإضافة لهذا الحد والمنع بشكل ممنهج للتوسع العمراني، تموّل المنظومة مستوطناتها لتنمو وتتوسع وتبني العديد من الوحدات السكنية للمستوطنين في محاولة لتطويق القرى والبلدات العربية وقطعها عن بعضها البعض، ولا ننسى العديد من المشاريع التي تعد أيضا غطاءً للتوسع الاستعماري وفرض السيطرة على الأراضي، والتي يمكن أن تقضي بسلب السكان أراضيهم بهدف تنفيذ مشروع مد خط كهرباء أو ماء أو برج لتغطية الهواتف مثلاً، ولعل المثال الأكبر هو مشروع توربينات الرياح الاستعماري التي تحاول منظومة الاستعمار الآن إقامته في الجولان على أنقاض القرى المهجرة ولا سيما قرية سحيتا المهجرة والمدمرة في شمال الجولان، كل هذا باسم الطاقة الخضراء والتطور والحضارة. بالإضافة إلى كون توربينات الرياح عبارة عن أبراج ناطحة سحاب طويلة تحتل الأراضي القليلة المتبقية بحوزة أصحابها في الجولان، تقتل هذه التوربينات جميع المحاصيل الزراعية حولها، وامتدادها على هذا الكم الكبير من المساحات، سوف يغير وجه المنطقة الاقتصادي من زراعي مستقل نوعاً ما إلى صناعي، ويعتمد اقتصاديًّا على الشركة المسؤولة والمتحكمة في رواتب عدد قليل من الموظفين الذين سوف يعملون في هذا المشروع على أرض فيها الحياة مدمرة.
تستخدم آلية خدمات الهندسة وتنظيم البناء كإستراتيجية لتغيير الواقع الجغرافي في الجولان، حيث أنه تاريخيا ووفق التعريفات السياسيّة فإن الجولان ليس أرضاً إسرائيلية، ولا يحق للاحتلال فرض التغيير الجغرافي والثقافي على هذه الأراضي، ولكن نرى أنه من خلال عملية ما يسمى ب"تنظيم البناء" يهدف المشروع الاستعماري لضم الأراضي تحت غطاء قانوني مخادع ، تتهرب دولة الاحتلال من القوانين الدوليّة، وبالمقابل تجبر السكان الأصليين على الحصول على تراخيص للبناء بهدف الخضوع لسلتطها ومؤسساتها . وهذا يعكس بشكل مباشر آلية "تنظيم" أو بالأحرى ضم الأراضي في الجولان وفرض القانون الإسرائيلي على أرض الواقع والتوسع الاستيطاني تحت غطاء "قانوني" أو "حضاري". لعل آخر الأمثلة على هذا كانت الأراضي التي زرعت بالألغام منذ حرب عام 1967 وقد حان موعد إزالة الألغام وفق القانون الدولي، مما يجبر الاحتلال دفع التكاليف وإعادة الأراضي لأصحابها، ولكن رأينا أن الاحتلال روّج مسبقاً من قبل سماسرة في الجولان للسكان دفع شركات "الطاقة الخضراء" مثل شركة إينرجيكس، تكاليف إزالة الألغام مقابل استئجار هذه الأراضي من قبل الشركة لما يزيد عن عشرين عام، وأنه بكل الأحوال لا يمكن لهم استعادتها فلماذا لا يتم تأجيرها للشركة وتلقّي مبلغ شهري بدلاً من عدم تلقي أي شيء. بهذا وبعد 20 عام وفق القانون الإسرائيلي، يمكن للشركة امتلاك الأرض على أساس أن ثمنها تم دفعه طوال سنوات استئجارها. ولكن بالطبع في الواقع كانت المنظومة في مأزق وليس كما يدّعي سماسرتها بأنهم يساعدون السكان المحليين على الاستفادة منها، إنما يحاولون منع السكان من استرجاع أراضيهم خالية من الألغام ودون دفع أي تكاليف في السنوات القريبة.
في هذا المجال أيضاً بإمكاننا إيجاد أمثلة تاريخية عاشها المجتمع الجولاني لمحاولات جمعية لمناهضة الاستعمار ومحاولته فرض سيطرته ولخلق بدائل خطابية ومادية وتخيّل واقع مختلف. يمكننا التأمل في التحرك على مواقع التواصل الاجتماعيّة في السنوات السابقة لمناهضة الكتل الاسمنتية، والذي أشار إلى سوء التخطيط والبناء الممنهج في قرانا، ومشروع مناهضة توربينات الرياح مؤخرًا. يمكن أيضاً تذكّر تأسيس لجان أراضي الوقف ونقابات المهندسين والأطبّاء وغيرها العديد من الأمثلة التي تشير إلى مواقع نجد فيها تفكيكاً لمحاولات الاستعمار في السيطرة علينا وتخيّل بدائل وإمكانيات لمواجهته.
في التعليم والنشاطات المجتمعية-الثقافية
نرى في مجال التعليم الكثير من الإشكاليات الجذرية ، وهذا ليس بالأمر الغريب كون المدارس والجامعات من المباني الأولى التي تسعى المنظومة للتحكم فيها وبما تقدمه من محتوى ومشاريعها وطريقة عملها، كما التحكم في الطاقم الذي يعمل فيها. سيطر الاحتلال على المدارس في الجولان وطرد جميع أفراد الطاقم التعليمي بعد احتلال الجولان وتم تعيين طاقم جديد، كما أجبرت المدارس والسكان على تناقل المعرفة وفق نظام تفرضه وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية على المدارس، وفي الجولان تحديداً تفرض ما تسميه "المنهاج الدرزي" والذي يحتوي على أهدافه كما هو واضح من تسميته، وهي تذويت خطابات المواطنة من خلال مواد مثل مادة "المدنيّات" أو خطاب الأقليّة الدرزية الغير عربية في إسرائيل من خلال حصة ما تسميه "التراث الدرزي". دائماً ما عانت مدارس الجولان مثل سائر السكان العرب من شح الميزانيّات مقارنة مع ما تتلقاه المدارس اليهوديّة، وخلل في نظام التعليم كونه يركز على السيطرة على الثقافة وليس تطوير الطلاب الجولانيين. فغير النقص في الأدوات والغرف والتجهيزات اللازمة، يوجد أيضا نقص في المواضيع المتوفرة في المدارس تحديداً في مراحل الثانوية حيث يكون تحديد عدد الوحدات والتنوع في المواضيع عاملاً أساسياً في القبول للجامعات، مما يعني حتى إن سعى الطلاب بكل طاقتهم ونجحوا في جميع المواضيع المتوفرة، سوف يعانون في القبول للجامعات بكل الأحوال بسبب قلة التنوع في المواضيع وعدد الوحدات.
أما ما بعد التحكم في الطاقم ونظام ومنهاج التعليم، تشبّع المنظومة الاستعماريّة المدارس في البرامج اللامنهجية ورحلات التعارف التي تحمل العديد من الأهداف والغايات السياسية المبطنة التي تستهدف الجيل الناشئ في الجولان بشكل مباشر بهدف السيطرة والهيمنة على الثقافة والفكر، مثل التقرب من الجيش والخدمة في صفوفه والكشّاف الدرزي وغيرها من الروايات التي تعمل بشكل ممنهج على طمس هوية الجولانيين السوريين المحتلين. في المقابل، تمنع وزارة التربية السكان المحلييّن من القيام بأي فعاليات لا منهجية في المدارس إن لم يتم ترخيصها من قبل وزارة التربيّة، وتعاقب أي تدخل من قبل الأهالي في ما يتلقاه ويتعلمه الطلاب. لا تكتفي وزارة التربية وأذرع الدولة بتثبيت هذا الواقع الذي لا يحترم عقولنا ويجبرنا على قبول الخضوع بصمت، إنما أيضاً تعمل وزارة التربية على معاقبة الطاقم التعليمي والإداري وابتزازهم بقوت عيشهم في المدارس عند أي محاولة لرفض مشاريع المستعمر أو حتى الاشتراك في النقاش السياسي المجتمعي حول قضايا جوهريّة تمس الطلاب والمدارس بشكل مباشر، فجلّ ما ترديه المنظومة من الطاقم هو تنفيذ وتطبيق مشاريعها بصمت والانفصال عن واقع المنطقة والبلدة التي يعلّمون فيها.
هناك أمثلة عديدة لمحاولات صد وتقديم الرعاية الجمعية أيضاً في المجال التعليم والمجال الثقافي، فرغم جميع التقييدات وعدم السماح للسكان الاشتراك في عمليّة التربية لكون أجهزة الدولة هي الوحيدة المسموح لها البت في هذه الأمور، نرى أن الأهالي استطاعوا أن يخترقوا هذا الحاجز من خلال تنظيم لجنة تدعى "لجنة أولياء الأمور" وهي مكونة من عدة لجان تمثل المدارس في جميع القرى، ولجنة مركزيّة مكوّنة من رؤساء هذه اللجان. شكلت هذه اللجنة على مدار السنوات الأخيرة الرادع الوحيد في وجه مشاريع الأسرلة في المدارس، وعملت بجهد كبير على إفشالها ونجحت في ذلك إلى حد ما. إن الحقل الثقافي في الجولان والمراكز التي تقدم برامج بديلة، رغم شحها عبر السنوات، ما زالت موجودة ولازالت توفّر المساحات التي تواجه عملية الإخضاع والسيطرة التي يتعرض لها الطلاب في المدارس. نرى أيضا سعي العديد من المؤسسات والأفراد لتوفير المنح المتواضعة هنا وهناك لطلاب الجامعات خارج البلاد وداخلها في محاولة للتعويض عن الفروقات الممنهجة التي تبنيها الدولة بين الطلاب.
5.خاتمة - أهداف مهمة يمكن أن تنبثق من هذه الأفكار
عند توسيع تصورنا لمفهوم الرعاية، يمكننا البدء بفهم حاجاتنا المختلفة والاعتراف بتعلقّنا ببعضنا البعض لتلبيتها، وبالتالي فهم الثقافة والممارسات التي علينا أن نبنيها لكي نتيح لهذه البيئة أن تصبح واقعاً معاشاً. يجب علينا الإلتفاف في جميع قطاعات الحياة حول تعزيز التمويل والمساحات والمفاهيم التي تمكن مجتمعاتنا والبيئة المحيطة بنا من الازدهار واحتضان جميع مظاهر الحياة والنمو والرعاية المجتمعية. من المهم صب اهتمامنا ومواردنا في ممارسة ثقافة تبادل الرعاية والدعم وقدرة مجتمعاتنا على تقديمه لبعضنا البعض، بدلاً من التركيز في خطابات المواطنة على تقسيمات طائفية أو إثنية أو تركيز أسئلة الهوية حول حدود جغرافية ما، كما الاستثمار في إنشاء المزيد من المساحات التي تتيح هذه الممارسات، فدون هذه المساحات لن نتمكن من التواصل وتكوين شبكات دعم ورعاية، ولا ننسى الحفاظ على الديمقراطيات المحلية وعدم إقصائنا من عمليات اتخاذ القرارات المصيرية التي تحدد واقعنا وطريقة عيشنا.
عندما نشير إلى النقاط التاريخية التي نشأت فيها مبادرات ومشاريع رعاية جمعية مختلفة لتصد وتواجه المحاولات الاستعمارية، من المفيد أن نفكّر أيضاً في سمات التنظيمات والمشاريع المعاشة والتي تعزز هذه المواجهة، والسمات التي بإمكانها أن تضر بالمواجهة أو تميّعها وتسلب منها حنكتها. يواجه الاستعمار كل محاولة تنظيمية بهدف صدّها، ويحاول أن يبتلعها ويحوّلها إلى سلعة "غير سياسية" وغير مهددة له، أو أن يواجهها ويبيدها بواسطة زرع عملاء وفتن وممارسة أساليب عنيفة، ولهذا من المهم أن يكون سؤال الاستمرارية وضمانها في مركز أي بناء لنموذج تنظيمي. في النداء للتعلم من تجارب الرعاية الجمعية ومنهجتها، علينا أن نفكر في كيفية خلق هذه الأنظمة لتكون جزء من حياتنا، وليس حيزاً منفصلاً مثل النموذج الذي تسعى له المنظومة الرأسمالية، ولتعمل بطريقة تكافليّة من خلال توزيع الأعباء بطريقة تشاركيّة، ولا تعيد بناء هرميات وعلاقات قوة مهيمنة. من المهم أن نوسع في نماذجنا التنظيمية مفهوم الرعاية ومفهوم السياسة في تفكيك ثنائية الخدماتي-السياسي، وأن نرى في المجلس أداة حكم استعمارية، بالتوازي مع استمرار التفكير في تنفيذ المشاريع والنشاطات المحلية التي تشكل رادعاً وبديلاً للمجلس ومشاريعه.
الهوامش
[1] عن "التدافع على إفريقيا" في ويكيبيديا
[2] مع تعدد السياقات وأشكال الحكم غير المباشر تعددت أيضا تعريفات "الرؤساء المحليين": مختار، شيخ، رئيس والخ.. في هذه الورقة نستخدم مصطلح "نخب" او "رؤساء محليين" لوصف هذه الطبقة من المجتمعات الأصلانية التي خُلِقَت من منظومة الاستعمار للسيطرة على المستعمرين ولتوحيد المصطلحات التي استخدمت في كل من المراجع التي اعتمدناها.
[3] خريطة: التجمعات السكنية التي هدمتها إسرائيل بعد احتلال الجولان عام 1967. المرصد - المركز العربي لحقوق الانسان في الجولان
[4] إسرائيل ومشروع "الدويلة الدرزيّة". ثائر ابو صالح. العربي الجديد. 27.03.22
[5] للتوسع في استغلال الموارد الطبيعيّة في الجولان يمكن الإطلاع على رسالة د.منى دجاني عن الموضوع: Dajani, Muna Daoud (2018) Water struggles as struggles for recognition: the lived geographies of farming communities in Sahl al-Battuf and the occupied Golan Heights. PhD thesis, London School of Economics and Political Science.
[6] عنقود الحكم المحلي في اسرائيل-السلطات المحليّة
[7] الفساد في السلطة الفلسطينيّة. الشبكة
[8] للتوسّع في موضوع سعي المنظومة الاستعمارية لبث صورة أنها المنقذة للمستضعفين لتبرير استعمار الشعوب يمكن الإطلاع على: Abu‐Lughod, L. (2002). Do Muslim women really need saving? Anthropological reflections on cultural relativism and its others. American anthropologist, 104(3), 783-790.
[9] انتخابات السلطات المحلية في إسرائيل - مركز دراسات الشرق الأوسط
[10] ورقة تخوض في تجربة الانتخابات عام 2018 وفي تفكيك مفهوم "الشباب" واستخداماته من قبل المنظومة للسيطرة على المجتمع: مفهوم الشباب الجولاني: ما بين السياسات الاستعمارية والمجتمع
قائمة المراجع
مقالات اكاديمية
01- Freddy F. (2018). Bronislaw Malinowski, “Indirect Rule,” and the Colonial Politics of Functionalist Anthropology, ca. 1925–1940. Comparative Studies in Society and History 60(1):35–57.
02- Burton, A. (2001). Adjutants, agents, intermediaries: the Native Administration in Dar es Salaam township, 1919–61. AZANIA: Journal of the British Institute in Eastern Africa, 36(1), 98-118.
03- Eggen, Ø. (2011). Chiefs and everyday governance: Parallel state organizations in Malawi. Journal of Southern African Studies, 37(02), 313-331.
04- Mizuno, N., & Okazawa, R. (2009). Colonial experience and postcolonial underdevelopment in Africa. Public Choice, 141, 405-419.
05- Lowes, S., & Montero, E. (2021). Concessions, violence, and indirect rule: evidence from the Congo Free State. The quarterly journal of economics, 136(4), 2047-2091.
06- Martens, J. (2015). Decentring Shepstone: The Eastern Cape frontier and the establishment of native administration in Natal, 1842–1849. South African Historical Journal, 67(2), 180-201.
07- Ikime, O. (1975). The British and Native Administration Finance in Northern Nigeria, 1900-1934. Journal of the Historical Society of Nigeria, 7(4), 673-692.
08- Müller-Crepon, C. (2020). Continuity or change?(In) direct rule in British and French colonial Africa. International Organization, 74(4), 707-741.
كتب أكاديمية
09- Kilson, M. (1966). Political change in a West African state: A study of the modernization process in Sierra Leone. Chapter 2: Politics and Functioning of the Native Administration System, 1937-1949.
10- Schapera, I. (Ed.). (2013). Western Civilization in Southern Africa: Studies in Culture Contact (Vol. 24). Routledge.
11- Picard, L. A., & Mogale, T. (2015). The limits of democratic governance in South Africa.
12- Akin, D. W. (2013). Colonialism, Maasina Rule, and the origins of Malaitan kastom..
13-Mahoney, J. (2010). Colonialism and postcolonial development: Spanish America in comparative perspective.
14 - O'brien, M. E. (2022). Family Abolition: Capitalism and the Communizing of Care.
15- The Care Collective. (2020). The care manifesto: The politics of interdependence.
ملفات استعمارية رسمية
16- الاجتماع المائة وخمس وسبعون للكنيست الثالثة عشر، يوم الإثنين 17 يناير 1994، القدس، مبنى الكنيست الساعة 01:16.
17- ملاحظات عن الاستراتيجيّة القوميّة لهضبة الجولان. تسفي هأورز وإيتسيك تسرفتي 2018.
18- بروفيل المجالس المحلّية 2020 - مجدل شمس.
19- وزارة الداخليّة - موافقة وملخص موازنة "المجلس الإقليمي في الجولان"
صحافة إسرائيلية
20- مقال من صحيفة هآرتس 30/08/2023: "الانتخابات ترمز إلى اقتراب دروز الجولان من الدولة لكن بناء التوربينات يهدد هذه العملية"
21- مقال من "مكور ريشون" 24/02/2019: تصويت من خلال حجب الثقة: سكان القرى الدرزية في الجولان ضد الانتخابات
22- مقال من موقع "واللا" الإسرائيلي31/10/2018 بعنوان: "20 ناخباً: المستوطنة التي شاركت لأول مرة في انتخابات السلطة المحلية"
23- موقع واينيت، مقال 30/10/2018 بعنوان: "حماس تدعو الدروز في الجولان: لا تصوتوا ثوروا"
24- مقال من موقع القناة الثانية عشر 07/01/2018 بعنوان: "انتخابات محلية أيضاً عند الدروز في الجولان"
25- مقال من جريدة "إسرائيل اليوم" 19/10/2017 بعنوان: "ضغوطات لإلغاء الانتخابات المحلية في القرى الدرزية بالجولان"
26- مقال من موقع "كالكاليست" 21/02/2019 بعنوان: "ترامب:" حان الوقت لتعترف الولايات المتحدة بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان""
27- مقال من موقع "دافار" 08/01/2018 بعنوان: "الدروز في الجولان / المستوطنات الدرزية الأربع في الجولان تستعد لإجراء أول انتخابات ديمقراطية"
28- مقال من موقع "معارييف" 04/03/2019 بعنوان: "غانتس في الجولان: "الاستيطان سيتضاعف وسوف نبني حكم مسؤول ومتوازن""
29- مقال من موقع "سيحا ميكوميت" 31/10/2018 بعنوان: "الانتخابات في الجولان ستُذكر على أنها اليوم الذي حاربنا فيه الاحتلال وانتصرنا فيه"
30- مقال من موقع مركز "شومريم" للإعلام والديمقراطيّة 01/09/2022 بعنوان: "هل يغير الجولان وجهه؟ تقدم عدد قياسي من الدروز بطلبات للحصول على الجنسية الإسرائيلية"