2 – أساسات للتحرّر النفسي: منظور مناهض للاستعمار

أولاً، الإلحاح

نعتقد أنه حان الوقت لأن نفهم ونؤطّر هبّة ايار 2021 كمرحلةٍ مفصليّة وتاريخيّة لنا، كشعب فلسطينيّ يعيش تحت استعمار استيطاني وثقافي ويناضل للتحرّر منه.

يعمل القهر علينا وضدّنا على عدّة مستويات بالتوازي. وحتى تكون مواجهته ناجعةً وتحرّرية، عليها أن تشمل جميع هذه المستويات. ما رأيناه من شعبنا في فترة الهبّة كان تجسّيداً لهذه الحقيقة – المواجهة على جميع المستويات – مهما كان فطريّاً أو عفويّاً. رأينا كيف كانت هناك أنواع متعدّدة من العمل المقاوم والتحرّري بالتوازي مع المواجهة الجسديّة في الشارع، منه ما يوجّه إلى الخارج (تجاه المنظومة) ومنه ما يوجّه إلى الداخل (تجاه ومن أجل أبناء الشعب والهبّة)، منه الانفعالي والصدامي، ومنه الممنهج وطويل الأمد. والأهم من هذا، أننا رأينا شرعيّةً كاملةً لهذه الجوانب المتعدّدة وتذويتاً لأهميتها التي لا يمكننا ترتيبها في هرميةٍ ما.

تعزّز بعض هذه الأدوار المواجهة التحرّرية للقهر ومنظوماته، تتمثّل في العمل على تأطير وفهم طريقة عمل المنظومة القامعة داخلنا، في أنفسنا وعلاقاتنا، بهدف تأطير منهجيّة وتوجّه للتحرّر منها، بناءً على قناعة مفادها أنّ من الشروط الأساسية للنجاح في مواجهة هذه المنظومات هو فهم طريقة عملها.

بدايةً، ننطلق في هذا النصّ من نقد المفاهيم والعدسات المهيمنة التي نستخدمها خلال تأطيرنا للصحة النفسيّة أو للأبعاد النفسيّة والعاطفيّة في تجاربنا، ونعرض فهماً وتأطيراً مغايرين للمشاعر والأبعاد النفسيّة من خلال عدساتٍ تحليليّة نسويّة ومناهضة للاستعمار، ونختم بعرضٍ موجزٍ لتوجّه علم النفس التحرّري كبديلٍ متناغمٍ مع واقعنا. ننتقل في النصّ القادم لتفكيك بعض الثنائيات التي تخلقها وتعزّزها وتعتمد عليها المنظومات القاهرة، ونعرض كيف ترتكز هذه الثنائيات على مفاهيم وتأطيرات علم النفس المهيمن.

نهدف في المواد الثلاث الأولى لبناء القاعدة الفكريّة والتأطيرات الأساسيّة التي نعتمد عليها لاحقاّ في نصوص مكمِّلة (يبلغ إجمالي عددها سبعة نصوص اولهم النص السابق وهو مقدّمة للسلسلة)، عن طريق تناول جوانب وظواهر أو أبعاد مختلفة من الهبّة الشعبيّة في أسابيع الهبّة، والعمل على تأطيرها وفق لغة ومن خلال عدسات علم النفس التحرّري. ما نحاول فعله هنا هو تكوين فهم ومعرفة «محليّة» فلسطينية، تتعمّق في تجاربنا وتحاكي أنفسنا، انطلاقاً من تناقضاتنا مع التأطيرات والمعرفة المهيمنة، كوسيلةٍ لتحرّرنا من تأثيراتها السلبية والمحبطة.

ثانياً – إشكاليات علم النفس المهيمن

ينبثق المنظور الحالي والمهيمن للأبعاد النفسيّة والعاطفيّة من مجال علم النفس، حيث يتمّ طرح علم النفس كأحد العلوم التي تسعى لفهم الإنسان باستخدام أدوات قياسٍ علميّة تهدف إلى فهم الإدراك والسلوك والمشاعر البشرية. يعتمد علم النفس على فرضياتٍ أوروبية و/أو أمريكية استعماريّة ساهمت وتساهم في عولمة الرأسمالية وخدمتها. إحدى التوجّهات الأساسية التي نجدها في علم النفس هي استخدام النموذج الطبيّ لفهم وتأطير النفس البشريّة، والأبعاد والتركيبات النفسيّة والعاطفيّة. تتمثّل إحدى نتاجات هذا النموذج في  ارتكاز المنظور المهيمن للنفس ولمجال علم النفس على الأعراض وربطها مع «أمراض» نفسية، سواءً كانت مؤقتةً أو مزمنة. بكلماتٍ أخرى، يركّز النموذج الطبي لعلم النفس على مرضٍ أو اضطراب، يتمّ تشخيصه من خلال متابعة أعراض الشخص البارزة ومحاولات إزالة المرض أو الاضطراب من خلال الأدوية و/أو العلاج النفسي. إضافةً إلى ذلك، وحسب «مارتين بارو» [1]، هنالك خمس فرضياتٍ أساسيّة في علم النفس المهيمن، والتي تؤخذ كحقيقة مسلّمة ولا يتمّ مناقشتها:

(1) الفلسفة الوضعيّة (Positivism): والتي تعتبر المعرفة كشيءٍ مبنيّ على حقائق موجودةٍ ويمكن قياسها بطريقٍة محايدة، وبالتالي بإمكان الباحثة إجراء بحثٍ موضوعيّ وأن تجد الحقيقة أو الحقائق حول أبعاد معيّنة ومختزلة من تجربة الأشخاص والمجموعات. تعتبر الفلسفة الوضعيّة هذه الحقائق متعاليةً على الزمان والمكان، ولا يتمّ فهمها كنتاجٍ لمباني وحيثيّات تاريخيّة معيّنة، وبالتالي تتغاضى عن كلّ الحقائق التي كان من الممكن أن تكون موجودة، في سياقٍ ومباني اجتماعيّة مختلفة.

تاريخيّاً، يمكننا فهم هذه الأنماط كمحاولةٍ لعلم النفس أن «يثبت» نفسه وعلميّته وسلطته على تأطير الواقع، في سعيه لمحاكاة العلوم الطبيعيّة. يختزل هذا التوجّه النفس البشريّة والتجربة المعاشة من خلال التركيز وتسليط الضوء على الأبعاد التي من الممكن قياسها بواسطة أدواتٍ يتمّ تطويرها في معامل دوائر علم النفس، باعتبارها الأماكن ذات الخبرة والمعرفة. بينما يتمّ تهمّيش التجربة المعاشة ومحو أجزاء منها بهدف «القياس الدقيق» و«ضمان الحياد» و«الموضوعية». لا يتوقف هذا التوجّه لفهم النفس البشريّة على تجريدها من تركيبتها فحسب، وإنما يكرّس أيضاً الهرميّة بين أنواع المعرفة ويُعيد بناءها بحيث لا تُعتبَر التجربة المعاشة كمصدر معرفة، وتعتبر «أقل أهمية/حقيقة» من الأبحاث العلميّة. أيّ أنّ مصدر إنتاج المعرفة وشرعيتها لا يُستمدّ من الشخوص التي تعيش التجربة، بل ممّن يقيسون التجربة. ينعكس هذا التوجّه في تكوين علاقةٍ هرميّة بين المُعالِج الذي يُعتبر شخصاً «مُلِمّاً» ومتعافياً، وبين المُنتَفِع الذي يُعتبر شخصاً ضعيفاً ومريضاً.

(2) توجّه الفردانيّة (Individualism) والذي يرى بالفرد كياناً يملك معنىً بحدّ ذاته، وأنّه الهدف النهائي لعمل علم النفس، أيّ أنّه يتمّ النظر إلى تجربة الفرد بمعزلٍ عن المجتمع ككيانٍ محدّد واضح المعالم وقائم بحدّ ذاته. يرى توجّه الفردانية – كجزءٍ من النموذج الطبي – مشاعر ونفسيّات الأشخاص كمجموعة أعراض، فيُشخصن سمات ومشاكل جمعيّة أو علاقاتيّة ويتجاهل واقع المباني الاجتماعية، ويختزل بذلك المشاكل البنيوية إلى مشاكل شخصيّةٍ ذات حلٍّ فردي.

(3) مذهب المتعة (Hedonism) والذي يفترض أنّ كلّ سلوكٍ بشريّ يهدف في أساسه إلى المتعة أو الرضا؛ أيّ أنّ الهدف هو الابتعاد عن التجارب التي تسبّب مشاعر سلبيّة. هذه فرضية رأسماليّة بجوهرها وتعزّز المنظومة الرأسماليّة (وكما نرى في النصّ التالي، تحدّد معرفتنا وفهمنا لمشاعرنا التي تعتبر سلبيةً وكيف نتعامل معها).

(4) الرؤية الاستتبابيّة ( (The homeostatic visionالتي تفترض أن هناك «وضعاً طبيعياً»، ويجب العودة عن أيّ اختلال والرجوع إلى الوضع الطبيعي. تسلب الرؤية الاستتبابيّة الثقة والقيمة من كلّ ظاهرة تتعلّق بسياق الصدام والتغيير أو الخلل في التوازن القائم، وبالتالي تقرأ وتفهم عدم التوازن الجوهريّ في النضالات الاجتماعيّة كاضطّرابات شخصيّة ومَرَضيّة.

(5) اللا-تاريخيّة (Ahistoricism) والتي تؤطّر الطبيعة والتجربة البشريّة كتجربةٍ كونيّة، وأنّه لا توجد اختلافات بين أشخاص من أماكن وأزمنة مختلفة؛ أيّ أنّها ترى النماذج والنظريات النفسيّة التي تكوّنت في سياقاتٍ معينة (يورو-أمريكية غالباً) على أنّها سارية في جميع السياقات، وبالتالي تفهم الشخوص المقهورين والمستعمَرين بطريقةٍ محدودة أو حتى مشوّهة.

من المهم أن نشدّد هنا على أنّ الثنائيّات والفرضيّات التي تمّ استغلالها في النموذج الطبيّ ليست واقعاً موجوداً، بل تمّ خلقها وتعزيزها كوسيلةٍ لتكوين هذا النموذج، كجزءٍ من الفكر الاستعماريّ وإضفاء الشرعية عليه. يؤثّر التوجّه الفردانيّ والمَرَضيّ لعلم النفس المهيمن بشكلٍ عميق على باقي فروع علم النفس، ممّا يشمل التوجهات الأكثر «اجتماعية» منها. فحتّى التوجّهات التي لا تؤطّر الصعوبات والأنماط النفسيّة كأمراض يجب التعافي منها، مثل ما يسمى بالنموذج النفسيّ- الاجتماعيّ أو علم نفس المجتمعيّ (الذي يشمل مفهوم التمكين – Empowerment)، والتوجّهات التي تعترف في العلاقة بين النفس البشريّة والمباني الاجتماعيّة المحيطة بها وتحاول تأطيرها، كلّها تعتمد بشكلٍ مستمرّ على مفهوم التأقلم والتعايش مع القهر، وليس على التحرّر منه. تعمل هذه التوجّهات على تكوين: (1) استراتيجيّات إدارةٍ عاطفيّة تعتمد على إنكار السياق الاجتماعيّ أو الانفصال عنه، (2) استراتيجيّات لحلّ المشاكل التي تعتمد على مفهوم التعويض والكفاءة الذاتية، (3) استراتيجيّات جمعيّة تعتمد على دعمٍ عاطفيّ لأفراد المجموعة.

تكرّس هذه الاستراتيجيّات المباني الاجتماعيّة القاهرة وتشجّع على التأقلم معها بدلاً من العمل على مواجهتها وتغييرها [2]، وتختزل هذه النماذج والتوجّهات التدخلات النفسيّة إلى تدخلاتٍ تتمركز على المستوى الفردي أو مستوى العائلة، ومكان العمل أو الحي، وتتجاهل المستويات البنيويّة والاجتماعيّة في التجربة [3]. بالإضافة إلى فهم المستوى الشخصي بمعزلٍ عن المستوى البنيوي، يتمّ أحياناً تأطير هذا المستوى وفق تأطيرات علم النفس المهيمن، وكأنه بإمكاننا أن نؤطّر النفس البشريّة في تأطيرات علم النفس المهيمن وأن «نضيف» لها تعريفات «اجتماعيّة» وبنيويّة دون أن نواجه تناقضاتٍ وإشكالياتٍ جوهرية، بدلاً من فهم النفس البشريّة بطريقةٍ مختلفة جذريّاً، ككيان يتكون في ومن خلال المباني الاجتماعيّة التي تحيط به.

ثالثاً – احتضان التركيبة البشريّة

ما عرضناه في القسم الثاني يوضّح أنّ فهمنا لعلم النفس والأبعاد النفسية، والذي تعزّزه الثقافة الشائعة والتصوّرات التي نشاهدها ونسمع عنها في الأفلام والمسلسلات، يبسّط ويسطّح النفس والتجربة البشريّة ويكرّس رؤيتنا للأشخاص الذين يعيشون صعوباتٍ نفسيّة كضحايا («الله يعينه/ا»). ومن المهم التشديد هنا على أنّ الفرضيات والثنائيات التي يرتكز عليها علم النفس المهيمن (وسائر العلوم والمعارف الأكاديمية) لا تشبه أو تمثّل أيّ واقع أو «حقيقة»، بل هي محاولة لتطويع الواقع لمباني أيديولوجيّة معيّنة.

انطلاقاً من النقد الآنف الذكر، تأتي سلسلة النصوص هذه لتساعدنا على رؤية واختبار «ما الذي يمكننا أن نراه ونفهمه» إنْ احتضنّا التركيبة البشرية والعمق في التجربة، عوضاً عن تسطيحها وعزلها في أجزاء منفصلة ومستقلّة «يمكن قياسها». بدلاً من تأطيرات المعرفة المهيمنة وتطويع الواقع للمباني القمعيّة التي تفضي مجدداً إلى تعزيز وإعادة إنتاج القهر الذي نعيشه، تأتي هذه الخطوة بمثابة إعادة المحادثة لنكون نحن في مركزها، نتحدّث عن أنفسنا وعن تجاربنا وننطلق منها، أو يمكن اعتبارها دعوةً لرؤية تجاربنا الحياتيّة والأبعاد النفسيّة فيها كمصدر معرفةٍ أساسيّ، والارتكاز عليها في تأطيرنا وفهمنا لأنفسنا ولذواتنا وللعالم.

إحدى الثنائيات المركزية في المعرفة اليورو-أمريكية هي الثنائيّة الهرميّة بين الفكر والشعور.   تاريخياً، وُضِعَت المشاعر في ثنائيةٍ نقيضة للمعرفة وتمّ إنكار دورها في تكوين المعرفة؛ أيّ وضعت كشيء يجب على الفكر والمنطق إدارته، فكانت تُفهم المشاعر كشيءٍ يحصل للشخص خارج عن سيطرته ويخلّ في قدرته على التفكير المنطقي [4]. نضيف الى هذا أنّ التفكير التطوّري مَوضَع المشاعر في المراحل البدائية للبشرية كشيءٍ يمثّل زمناً أكثر بدائيةً في التاريخ. تذكّرنا العدسات الفكريّة النسويّة أنّ الثنائية بين المشاعر والفكر تعكس وتكرّس الثنائية بين الأنوثة والرجولة، والطبيعي والجسدي والبرّي من جهة، والإنساني والنفسي الثقافي- المجتمعي من جهةٍ أخرى. تمّ استنساخ هذه الهرميّة بين الفكر والشعور في بناء هرميّةٍ بين المشاعر، وتأطير التطوّر البشريّ  كانتصارٍ للمنطق على المشاعر، وتعدّاه إلى  تكوين القدرة على السيطرة على المشاعر، واختبار المشاعر «المناسبة» في أزمنة وأماكن مناسبة [5].

يرى الفهم الحديث للمشاعر اشتمالها على  مركّبين؛ مركّب جسديّ- شعوريّ، ويحيل إلى مستوى الإحساس الأوّليّ في التجربة؛ ومركّب ذهنيّ- فكريّ، يتعلّق بالقيم التي نذوّتها في تنشئتنا الاجتماعية تجاه أحاسيس معيّنة، والتي (أيّ القيم) تدفعنا لإسقاط أحكام على الإحساس والشعور (جيد/سيء). وبهذا، يعيد الفهم الحديث للمشاعر بناء ثنائيّة الشعور- الفكر ويعتمد عليها. ومع ذلك، يُمكننا الاستفادة من تأطيره للمركّب الذهنيّ- الفكريّ في المشاعر كمركّبٍ يتعلّق بالتنشئة الاجتماعية. أوّلاً، يمكنه مساعدتنا في تأطير المشاعر كردودٍ نختارها بشكلٍ مقصود، وليس فقط كشيءٍ «يحصل» لنا. أيّ تساعدنا في تأطير المشاعر، بالنظر إلى مركّبيْها الذهنيّ والجسديّ اللذين يغذيان ويشكّلان إحداهما الآخر، كأساليب نتعامل بواسطتها مباشرةً مع العالم ونبنيه في مخيّلتنا. وثانياً، في تأطير علاقة القيم والأحكام والمفاهيم (الاجتماعيّة) مع مشاعرنا وردودنا عليها، نرى أنّنا نتعلّم من الطفولة ردود الفعل المقبولة اجتماعيّاً في مواقف معيّنة، والطرق المناسبة للتعبير عن مشاعر وأحاسيس في الثقافة السائدة. وبما أنّ الثقافة السائدة والمهيمنة هرميّة، فالقيم والتقاليد التي نذوّتها والتي تشكّل مشاعرنا تخدم عادةً مصالح مجموعات في مراكز سلطةٍ ما [6].

تعلّمنا الفلسفة والحركة النسويّة أنّ الشخوص لا تختبر دائماً مشاعر مقبولة اجتماعيّاً في ردودها على أحداث معيّنة؛ أيّ أنّها تختبر مشاعر تُعتَبر «خارجة عن القانون». عندما يختبر هذه التجارب والمشاعر أفراد معزولون عن بعضهم  البعض، تعدّ تجارب مربكةً ولا يمكن تسميتها، وحتى يمكن اعتبارها حالة جنون. ولكن عندما تتحدّث الشخوص عن هذه التجارب الشبيهة وتشاركها، بإمكانها أن تشكّل قاعدةً جمعيّةً تحتوي على تأطيرات وتقاليد وقيم تعارض وتواجه تلك المهيمنة في المجتمع. وذلك ما يجعل هذه المشاعر الخارجة عن القانون «مقاومة معرفيّة وسياسيّة». عندما نجرّد التجربة والمشاعر الخارجة عن القانون من التأطيرات السلبيّة والفردانيّة والمَرَضيّة، نبدأ بفهم مشاعرنا كمصدرٍ للمعرفة الضروريّة لتحرّرنا، ونفهمها كأساسٍ وقاعدةٍ لخلق فهمٍ نقديّ للعالم والواقع الاجتماعي. ويُمكن لهذه المشاعر أن تكون بمثابة المؤشر الأوّل الذي يدلّ على أن شيئاً ما ليس على ما يرام في الأسلوب الذي أُطِّرت عن طريقه «حقائق» معيّنة أو الذي تُفهم من خلاله ظواهر معيّنة. عندما نتأمل في هذه المشاعر التي تربكنا – انزعاج أو نفور أو غضب أو حزن أو خوف – يمكننا استحضار هذا الشعور الفطري، بأننا نعيش في واقعٍ وسياقٍ تملؤه الهيمنة والقسوة والظلم و العنف، إلى تجربتنا الواعية [7].

رابعاً – خطوة إلى الوراء، وخطوات إلى الأمام

اتّخذنا في هذا النصّ خطوةً إلى الوراء، وعرضنا موقعنا من خطاب علم النفس المهيمن والفرضيات الأساسيّة التي تجعل من معرفتنا خارج هذه الأُطُر، ولا ننظر من هذا الموقع إلى مشاعرنا ومعرفتنا كشيءٍ معروف أو مفهوم ضمناً، بل ننظر إلى المعرفة ذاتها حول المشاعر وحول الذاتيّة (Subjectivity). رأينا الأساليب التي تتضمّن الخطابات المهيمنة، وتُعتَبَر المعرفة الحقيقيّة الوحيدة التي تبتّ في موضوع المشاعر، و تؤطّرها  كردود فعلٍ فرديّة وشخصيّة، أو كخللٍ في النظام النفسي وكشيءٍ يجب إدارته والسيطرة عليه، أو بكلماتٍ أخرى الإدارة والسيطرة على الأشخاص والمجموعات التي تعكس وتعيش مشاعر خارجةً عن المقبول في سياقاتٍ معينة.

عند تغيير نقطة انطلاقنا لفهم وتأطير معرفتنا عن المشاعر والذاتيّة، نفتح المجال لإيجاد بدائل وتأطيراتٍ أخرى مختلفة جذريّاً، تقوّينا وتعزّزنا وتساعدنا على المقاومة والتحرّر. فالمعرفة وعلم النفس المبنيان على  تجارب، وحسب احتياجات الأشخاص المقهورين، يؤطّران التحرّر الجمعي على أنه ذو علاقة جدليّة مع التحرّر الفردي. يرى هذا التوجّه أنّه ليس كافياً أن نتعلّم ونفهم المباني السياسيّة القاهرة، دون أن  نتعامل مع المحدوديّات المُحبِطة للفعل، والتي هي جزء لا يتجزأ من آلية عمل القهر؛ أيّ الشعور بالدونية والعار واليأس، أو بالعدميّة، وتطبيع الوضع القائم [8].

يُمكننا هنا اتّخاذ علم النفس التحرّري كمثالٍ حيّ، وهو توجّهٌ تحرّريّ مناهض للاستعمار، يتأسّس على بعض المبادئ مثل تكوين الوعي النقديّ، وتفكيك طبيعة وأدلجة الواقع، فضلاً عن استعادة الذاكرة الجمعيّة وتكوين علم نفسٍ ينشأ من تجربة المقهورين المحليّة والمعاشة، إنْ كان على مستوى النظرية أو على مستوى الممارسة [9]. انطلاقاً من وعينا بأنّ التأطيرات المهيمنة لعلم النفس والآليات التي تنبثق منها بعيدة كلّ البعد عن الحياد، بل أنّ الهدف الأساسي منها هو خدمة المنظومات القاهرة والحفاظ عليها، نستنتج أنّه من المهم أن يكون تحدّينا ومقاومتنا لعلم النفس وللمعرفة المهيمنة عن النفس والمشاعر على مستوى النظرية والتأطير، كما على مستوى الممارسة والتطبيق.

نتحدّث في النصّ القادم (ألثالث) بتوسّعٍ عن عددٍ من الثنائيات التي تخلقها وتتأسّس عليها المعرفة المهيمنة لعلم النفس، في محاولةٍ منّا لفهم الإمكانيات الموجودة في مجتمعنا وسياقنا، والتي تبرز عند تجاوزنا لهذه الثنائيات (تحديداً خلال الهبّة الشعبية سنة 2021). ننتقل من النصّ الثالث إلى بقية نصوص السلسلة، بهدف قراءة الواقع خلال فترات الهبات الشعبية من المنظورات التي تمّ تناولها والتأسيس لها.

المراجع:

[1] ] Martin-Baro, I. (1994). Writings for a Liberation Psychology. In: Aron, A. & Corne, S. (eds.)

[2] Phillips, N.L., Adams, G. & Salter, P.S. (2015).Beyond Adaptation: Decolonizing approaches to coping with oppression. Journal of Social and Political Psycholgoy, 3(1), 365-387.

[3] Moane, G. (2003). Bridging the personal and the political: Practices for a Liberation Psychology. American Journal of Community Psychology, 31 (1-2), 91- 101.

[4] Jaggar, A. (1989) Love and knowledge: Emotion in feminist epistemology, Inquiry, 32(2), 151-176.

[5] Ahmed, S. (2004). The Cultural politics of Emotion.

[6] Jaggar, A. (1989) Love and knowledge: Emotion in feminist epistemology, Inquiry, 32(2), 151-176.

[7] Jaggar, A. (1989) Love and knowledge: Emotion in feminist epistemology, Inquiry, 32(2), 151-176.

[8] Moane, G. (2006). Exploring activism and change: Feminist Psychology, Liberation Psychology, Political Psychology. Feminism & Psychology, 16(1), 73-78.

[9] Burton, M. (2013). Liberation psychology: A constructive critical praxis. Estudos de PsicologiaI Campinas, 30(2), 249-259.

Scroll to Top