7 – الجسد أداة تحرُّرنا: واجب الاعتناء الذاتي والجمعي

أولًا: المقدمة والسياق

نتأمّل في هذا النص في الأبعادَ الجسديّة التي اختبرنا بها فترة الهبّة الشعبية الواسعة عام 2021، لا كأجسادٍ فرديّة خاصّة ومنعزلة، إنّما بصفاتها الجمعيّة والسياسيّة تحديدًا. نحاول في هذا النص تجاوز ثنائيّة الجسد والنفس، والتأمّل في العمل على الحفاظ على أجسادنا والأفعال التي نسعى عبرها للتعافي الجسدي. ونموضع هذه الأفعال ضمن العمل التحرري الذي لا يقل أهمية عن الحفاظ والشفاء والتعافي النفسي. وننظر إليه باعتباره جزءًا لا يتجزأ من التحرير الكلّي من منظومة القهر على أوجهها المتعددة؛ الاستعمار والأبويّة والرأسماليّة. بعد عرض الانتقادات المركزيّة لمفهوم «الاعتناء الذاتي» في الخطاب المهيمن اليوم، نفكّر في أهميّة مفاهيم اعتنائنا بأجسادنا ونفسياتنا وطريقة تبنّيها بمعزل عن الخطابات الفرديّة والرأسمالية للاعتناء الذاتي. كما نتأمّل في الأشكال المتعدّدة التي اتخذها الاعتناء الجمعي منذ بدايات الهبّة في شهر أيّار.

أحد الدوافع التي قادتنا لتناول هذا الموضوع في سياق الهبّة الشعبية كان مشاهداتنا لأنفسنا ولمن حولنا من الأشخاص في تلك الفترة. على سبيل المثال، شاهدنا كيف تشاركنا حينها سلوكيات جماعية، فلم ننم بشكل كافٍ، لم نأكل بشكل صحيح، ولم نضع راحة أجسادنا في مقدّمة أولوياتنا، تحديدًا في الأسابيع الأولى للهبّة. شاهدنا كيف أرهقتنا الأمراض الجسديّة بعد الأسابيع الأولى وأرهقت العديد ممّن حولنا أو ربّما معظمهم، وكأن أجسادنا حاولت إجبارنا على الراحة والاعتناء بها. من المهم التشديد على أن الثنائية الهرمية ما بين الجسد والنفس؛ والتي تضع النفس (وتحديدًا أجزاء المنطق والفِكر فيه) في مكانة أرفع وأرقى وأطهر من تلك التي تضع فيها الجسد، هي من ثنائيات الفكر الأورو-أمريكي المُستدخلة فينا عبر الاستعمار (الثقافي والاستيطاني) ولخدمته. تتعامل هذه الخطابات مع «الذات» بمعزل عن الأجساد فتراها ذوات متكاملة تسكن داخل الأجساد وتسيطر عليها، مُهمّشةً بذلك الجسد من التجربة المُعاشة، فتعتبره «شيئًا»، لا جسدًا معاشًا أو جزءًا مركزيًا من التجربة المعاشة [1].

في تأطير الخطابات الطبية المهيمنة للعلاقة بين الجسد والنفس، تُعرض حالات جسدية معيّنة على أنّها أمراض «سيكُوسُوماتِيّة» أو نفسّية-جسديّة يجب أن تُعالج نفسيًّا. تهمّش هذه الخطابات توجّهاتٍ طبّية أخرى ترى أنّ كل الأمراض الجسديّة هي سيكُوسُوماتِيّة، أي، مرتبطة بالجسد والنفس، والتي حتى تعارض استخدام منظومة الصحّة لمصطلح «أمراض سيكُوسُوماتِيّة»، لما يخلقه من ثنائية بين هذه الأمراض وبين أمراض «جسديّة» ظاهرة. في اعتماد علم النفس المهيمن على النموذج الطبّي (والبيولوجي)، تتكوّن غالبًا داخل الحالات التي تُفهم كأنها متعلقة بالنفس، ثنائيّة هرميّة إضافيّة: بين الأمراض «الحقيقيّة»، التي يشخّصها ويعالجها الطبيب أو طبيب الأعصاب، والتي تُظهِر أعراضًا دماغيّة يمكن مشاهدتها؛ وبين الأمراض الوهميّة أو الخياليّة التي يشخّصها ويعالجها الأخصّائي النفسي، والتي دائمًا ما يدور تساؤل حول مدى حقيقتها [2]. أي أنّه في معظم الأحيان يُعطى لبيولوجيّة الجسد وللظواهر التي يمكن مشاهدتها بالعين أو الِمجهر مكانة أعلى من الظواهر التي علينا الاعتماد على التجربة المُعاشة لنفهمها.

في اعتماده على المنظور الطبي لفهم الأشخاص، يميل علم النفس المهيمن لرؤية التجربة الإنسانية والنفس والذاتيّة البشريّة، كأشياء تقتصر على الدماغ. بالتالي يختزل التجربة المعاشة فيما يُفهم على أنّه بيولوجيّة الجسد معتبرًا أنّها حقائق مطلقة ومنزلة فقط لأنّ مشاهدتها ممكنة. نحن نعلم اليوم وكما ذكرنا في مقدمة السلسلة أنه حتى البيولوجيا كتيّار معرفي في خطاباته المُهيمِنة، يتأسّس ضمن منظومات الفكر الأورو-أمريكي ويؤسسها، ويعرض الواقع ضمن عدساتها الأيديولوجيّة، ولا يعرض بالضرورة المعرفة «الموضوعيّة» أو الحقيقة [3].

نحاول في هذا النص أن نتأمّل في الجسد الذي هو جزء لا يتجزأ من النفس ومن المحيط الاجتماعي والسياسي في تكوين التجربة المعاشة. ونتجاوز النظرة التي تنصّبه في مكانة أرقى أو أدنى من النفس. هذا التأمّل، مع سائر التأمّلات في بقية النصوص، هو طريقتنا (ككاتبات) في تقديم الاعتناء الجماعي لشعبنا (وبالتالي الاعتناء الذاتي لأنفسنا).

ثانيًا: الاعتناء الذاتي ومشكلاته

تعود جذور مفهوم الاعتناء الذاتي للنشاط الأسود في التحرير في الثمانينيات. كانت الشاعرة النسوية المناهضة للاستعمار أودري لورد [4] أول من استخدمته. ومنذ ذلك الحين ابتلعته المنظومة الرأسمالية وأخذت بتسليعه [5]. أدلجة هذا الخطاب أدّت لعدم وجود مفر من التوجه الذي يعرضنا كأننا أحرار تمامًا، وأصحاب القرار والمسؤوليّة على صحتنا، وبالتالي نلام بشكل فردي على الصعوبات التي نواجهها والأمراض والاضطرابات التي تصيبنا. نرى اليوم كثرة استخدام هذا المصطلح في الثقافة العامة والإعلانات التي تروّج لنا طُرقًا ومنتجات وأساليب تُقنعنا بأنها سبيلنا للسعادة والاعتناء الذاتي [6]. نجحت المنظومة الرأسمالية في تبني هذا المفهوم واستغلاله وتعميمه، فنحن نعيش في عالم نشعر فيه أننا عديمو السيطرة والسلطة على معظم جوانب حياتنا، وبالتالي نشعر بأن السيطرة الوحيدة المتبقيّة لنا هي السيطرة على جسدنا وعلى ما نأكل، ما نلبس، إلخ [7]. مع مرور الزمن وانتشار مفهوم الاعتناء الذاتي واستمرار تسليعه، زادت رغبتنا في امتلاك صحّة أفضل، كما ازداد قلقنا وتوترنا من النتائج الصحّية لأفعالنا اليوميّة. توسّع مفهوم الصحّة كثيرًا لتشمل معانيه «حياة جيّدة»، وبالتالي توسّع مفهوم الاعتناء الذاتي ليشمل فعاليات كثيرة ومتعددة. وأصبحت المُنتجات التي تسوّق الاعتناء الذاتي تشمل جوانب أكثر من حياتنا، في أجسادنا، وفي نفوسنا وعلاقاتنا [8].

بالرغم من وجود توجهات ترى في انتشار مفهوم الاعتناء الذاتي ردّ فعل مقاوم لسيطرة المؤسّسة الصحّية ومأسستها، عبر اتّخاذ الشخص السيطرة واضطلاعه بالمسؤوليّة على صحته، انتُقِد تسليع وانتشار هذا المفهوم من عدّة جوانب. أولًا، باعتباره انعكاسًا لظاهِرَة «النرجسيّة الثقافيّة/المجتمعيّة»، التي تُكوَّن البُنى الاجتماعية وفقًا لها أنواع شخصيّات وذوات معيّنة، تتميز بنظرة ناقدة للذات، تتمثّل في تأمُّل مُستديم يبحث بشكل فعّال عن الجوانب التي تحتوي على خلل أو اضطراب أو مشكلة ما. ثانيًا، انتُقِد تأطير استقلال الأشخاص وحريّتهم المطلقة في اتخاذ قراراتهم بتشبّعه بأيديولوجية الفردانية وإهمال علاقات القوة التي تساهم في بلورة الشخص صاحب الخيار والخيارات المتوفّرة له وقدرته على اتّخاذ القرار. نتج عن هذا التأطير شعور مفرط وغير واقعي عند الأشخاص بالمسؤولية الشخصية على الصحة، ومبالغة في فهم تأثيرات العوامل المختلفة عليها وفي فهم حرية الشخص [9]. هذا يصب في النقد الثالث لمفهوم الاعتناء الذاتي، وهو نقد مفهوم «الذات». فإنّ مفهوم الاعتناء الذاتي، بِصِلَته مع «الذات»، ما زال مرتبطًا بالقيم والأعراف النيو-ليبيرالية التي تشجّعنا على الاهتمام بأنفسنا، كبديل لرؤية ارتباط أنفسنا وصحتنا ومصيرنا بشكل معقّد وغير قابل للفصل مع باقي البشر ومع البيئة المحيطة [10].

ثالثًا: أهميّة الاعتناء الذاتي النقدي وإمكانيته

استغلال الرأسماليّة لمفهوم الاعتناء الذاتي وتسليعه كمفهوم متعلّق بالمسؤوليّة الفرديّة لا يعني بالضرورة استغناءنا عن المفهوم أو اعتباره منفصلًا عن العمل السياسي أو مضرًّا به [11]. فهناك حاجة ماسّة للتأمّل وتعلّم التوازن بين الحاجة للعمل الآني والضروري أمام عمل منظومات القهر علينا، وإيجاد طرق لحماية أنفسنا والاعتناء بها. تحديدًا لأننا نعرف أن إرهاقنا وتحويلنا لأشخاص غير متعافين جسديًّا/ نفسيًّا هو أحد أهداف المنظومة، والوسائل التي تمارس بها علينا القهر والاستغلال. أي أن العمل على صحتنا والاعتناء بنفوسنا وأجسادنا، هو عمل مناهض ومواجه ومقاوم وتحررّي، ولا يقل أهمية عن باقي أنواع العمل التحرّري. لا يمكن أن نتصوّر تحريرًا جذريًّا وحقيقيًا، بمعزل عن تحرير أجسادنا ونفوسنا من قبضة الاستعمار والقهر. إضافة إلى ذلك، نرى أنّ أجسادنا هي آليات تحرّرنا المركزيّة، أي أن التحرّر من الاستعمار «في الخارج» يتطلب أن نحافظ على أجساد ونفوس مُعافاة وقادرة على المقاومة، ويتطلب تحررًّا من الاستعمار «في الداخل». لهذه الأسباب، بدلًا من التمسّك بالنموذج المهيمن والمسلّع للاعتناء الذاتي، أو الاستغناء التام عن المفهوم، نريد أن نتأمّل الاعتناء الذاتي بطريقة نقديّة وأن نفكّر في الإمكانيات التحرريّة التي يمكن أن يتيحها لنا. يقتضي التفكير النقدي بمفهوم الاعتناء الذاتي، أن نفكّر في مفهومي «الاعتناء» و«الذات».

من نقد مفهوم «الذات» والمعاني الفردانيّة التي تُعزى له، يمكننا استنتاج أن على البديل النقدي لمفهوم الاعتناء الذاتي أن يكون جمعيًا لا فرديًا. إن كان الاعتناء الذاتي يعني أنّ «عليّ الاهتمام بنفسي»، فالاعتناء الجمعي يعني أنّ «علينا الاهتمام ببعضنا». يُصعّب هذا التأطير على المنظومة الرأسمالية استيعاب المفهوم وابتلاعه وتسليعه للاستهلاك الفردي، فالاعتناء الجمعي ينتمي للجميع وليس ملكًا خاصًا يُشترى ويباع. يمكننا استحضار سلوكيات وأمثلة عن الاعتناء الذاتي مثل: الجيرة الحسنة، أو التواجد لدعم أولاد المجتمع، وتبادل دعم نفسي وعاطفي ومادي بين جماعات وأفراد، والعديد من الأمثلة الأخرى عن تعزيز شعور الجماعة والّلحمة والانتماء [12]. من المهم أن نتذكّر نقد فكرة الاستقلالية والحريّة المطلقة للشخص في أن يختار ويقرر، ولهذا يجب أن نفهم أنّ على البديل أن يأخذ في عين الاعتبار عدم المساواة والتفاوت في الموارد بين الأشخاص، وبالتالي التفاوت في إمكانيات الأشخاص وقدراتهم على ممارسة الاعتناء الذاتي [13].

بالإضافة إلى هذه الخطوط العريضة التي تُوجِّهنا في بلورة البديل النقدي لمفهوم الاعتناء الذاتي-الجمعي، يمكننا الاستفادة أيضًا من الرجوع للاستخدام الأصلي والأوّلي للمفهوم، أي، قبل تبنّي الرأسمالية له وتسليعه بطرق نيو ليبيرالية، والتأمّل في منظار أودري لورد لمفهوم الاعتناء والاعتناء الذاتي [14]. حسب لورد، الاعتناء الذاتي هو جسدي ونفسي مقصود وهادف، وهو ضروري وسياسي ومقاوم لتوجهات رأسمالية معيارية تتناقض مع تعافي المقهورين. الهدف من الاعتناء الذاتي بالنسبة لها لا يتعلق في ازدياد طول الحياة فقط، بل في ازدياد جودتها أيضًا. يمكننا استحضار أمثلة مألوفة لأفعال الاعتناء الذاتي مثل التقليص من أكل السكر، والامتناع عن إرهاق الذات في العمل المفرط، والحرص على التأمل وتثقيف الذات لتستطيع الاشتراك في القرارات الطبيّة حول صحتها. الهدف لم يكن التخلّي عن الأطباء ومعرفتهم، بل زيادة مدى الاشتراك الفعّال للشخص في تحسين صحته. من المهم الإضافة هنا أنه بالنسبة للورد، علينا دمج الاعتناء الذاتي في الحياة المعاشة لا فصله عنها، فالاعتناء لا يمكنه أن يحدث خارج الزمن المعاش داخل ما تسميه الرأسمالية «الوقت الشخصي»، بل هو ممارسة مستمرّة. بالإضافة لذلك، لا يهدف الاعتناء الذاتي بالضرورة للشفاء أو حتى «للسعادة»، بل عليه أن يتمحور حول الاعتناء والتعافي، فالبقاء بالنسبة لها ليس فقط عدم-الموت أو طول الحياة، بل هو عيش الزمن المتوفّر للشخص بطريقة كاملة ومليئة وباستمراريّة الشخص بالتعلم من تجاربه وهويّاته وجسده.

يمكننا التعلم من تجربة أودري لورد أنه عندما نعيش في عالم يحاول محونا أو يحاول أن يسبّب لنا الأذيّة، عالم يصبح فيه موتنا ضروري، تصبح طريقة حياتنا وطريقة مماتنا مسائل سياسيّة بجوهرها. تجربة لورد تعزّز لدينا الفهم أنه في سياق مثل هذا، مواقعنا المختلفة على تقاطعات جميع هوياتنا – العرقية، الجندرية، الجنسية وغيرها – تؤثّر على بعضها البعض، وتبلور فهمنا وقدرتنا على الاعتناء الذاتي. لهذا، في توسيع مفهوم «الذات»، علينا أخذ هذه التقاطعات بالحسبان. في فهم التقاطعات المختلفة التي تتجسّد حياتنا عبرها والاختلافات التي تنبع منها، وفي فهم تأثيرها على فهمنا للاعتناء والاعتناء الذاتي وممارستنا لها، هناك تشديد على أهمية السياق الاجتماعي والسياسي الذي نحاول فيه أن نمارس الاعتناء الذاتي. وبالتالي بدلًا من اختزال مفهوم الاعتناء في الحيّز الخاص والشخصي، من المهم فهمه كقضية جمعيّة وسياسيّة.

أخيرًا، نقطة مركزيّة في فهم لورد للاعتناء الذاتي، هي أن هذا الاعتناء ليس تساؤلًا نظريًا سياسيًا فقط، بل هو فعل سياسي أيضًا. مما يعني أنه بالرغم مما نراه اليوم من تهميش لمفهوم الاعتناء والاعتناء الذاتي، حتى في الدوائر التقدميّة، وموضعته خارج إطار العمل السياسي، أو التعامل معه باعتباره «إضاعة وقت»، أو شيئًا ثانويًا بالنسبة للحراك والأفعال المواجهة والمقاومة التي تعتبر سياسيّة فعلًا. يعيد هذا بناء أعراف الرأسمالية، التي يعتبر الوضع المثالي بالنسبة لها وضعًا نواصل فيه العمل على مدار الساعة، في حين علينا ممارسة الاعتناء الذاتي في أوقات الفراغ القليلة فقط، وتجاهل ضرورة الراحة والسعادة والحفاظ على الذات في الحراك المقاوم وفي المواجهة، وتجاهل حقيقة أن الاعتناء والاعتناء الذاتي أفعال سياسية وتحرّرية لا تقل فعاليّةً عن طرق مواجهة منظومات القهر المباشرة.

رابعًا: ممارسة الاعتناء الذاتي كواجب أخلاقي [15]

بالإضافة إلى توسيع فهمنا وتأطيرنا لمفهوم «الذات»، من الضروري أن نتوسّع في فهمنا لمفهوم «الاعتناء». لا يقتصر مفهوم الاعتناء الذاتي بالنسبة لأودري لورد على الفرد فقط، فهو يهدف ليتيح للشخص العمل السياسي والاعتناء بالآخرين. أي أن الذات بالنسبة لها لا تقتصر على الجسد الفردي والشخصي فقط، بل تشمل تواجد الذات في علاقات دعم متبادل مع الآخرين. تعتبر مشاركة الآخرين في تجارب حياتنا وما نمرّ به اعتناءً ذاتيًّا ومُقاومًا لأعراف المنظومة التي تعلّمنا ألّا نتكلم عن مشاكلنا وأمراضنا أو صعوباتنا، كما تتيح لنا المشاركة إمكانيّة تلقّي الاعتناء من الآخرين وتزويدهم به [16].

توسيع مفهوم الاعتناء وربط الاعتناء الذاتي بالاعتناء بالآخرين، ينطلق من فرضية مفادها أن تعلّقنا بالآخرين هو حقيقة إنسانية وجدانية، أي أنّه القاعدة، لا الاستثناء، ولا يمكننا أن نختار التخلّي عنه. بالتالي، تقع علينا مسؤولية أخلاقية للاعتناء الذاتي والاعتناء بالآخرين. على هذا الاعتناء أن يصغي للاحتياجات المعينة والمختلفة عندنا وعند الأشخاص المقهورة، وأن يحاول تلبيتها.

كثيرا ما يُتداول موضوع الاعتناء بالآخرين لتخفيف معاناتهم، من باب الواجب الأخلاقي الذي ينبع من تعلقنا ببعضنا، لكنّ موضوع الاعتناء الذاتي باعتباره واجبًا أخلاقيًا يقع على الأشخاص المقهورين أنفسهم يبقى غالبًا على هامش هذا التداول. تُقلّص طبيعة عمل القهر على نفسياتنا فاعِليّتنا وقدرتنا على تقرير مصيرنا، وتبلور أفكارنا وسلوكياتنا تجاه أنفسنا. عندما نعيش الحتميّة التي يقنعنا بها القهر، نتعامل مع وضعنا بصفته حقيقة، ولا نميّز البُنى الاجتماعية التي تَقهرنا وتسبب آلامنا ومعاناتنا، وبالتالي نظنّ أنّ علينا إمّا أن نتحمّل مسؤولية مفرطة تجاه معاناتنا ونلوم أنفسنا، أو ألّا نتحمّل تجاهها أي مسؤولية مكتفين بنسبها للقضاء والقدر، ونلجأ للشفقة الذاتية ونفسية الضحية. يحدّ كلّ من هذين التوجهين اللذين يلجأ لهما المقهورون من فاعليتهم وبالتالي قدرتهم على مساعدة أنفسهم.

لأنّ القهر يقلّص فاعلية الشخص وقدرته على تقرير مصيره وتحديدها ممّا يعزّز بدوره عجزه عن التحرّر من القهر النفسي الذي يعيشه، فإّن العمل على استرجاع هذه الفاعليّة وتعزيزها يصبح وسيلة مركزية لكسر هذه الدائرة، وواجبًا أخلاقيًا للاعتناء الذاتي. في تفكيرنا بالاعتناء الذاتي كواجب يمكن أن ينشأ لدينا تخوفٌ من أن نكون قد حمّلنا المقهورين ثقلًا غير عادل أو لمناهم على معاناتهم. ينبع هذا التخوّف من فرضية أن الاعتناء الذاتي يتكوّن من أعمال ومهام تسبب تقييد المقهورين وإرهاقهم. ولكن من منظور آخر، عندما نرى الاعتناء الذاتي كواجب أخلاقي للمقهورين، نكون قد تجاوزنا اعتبارهم مجرد ضحايا مسلوبي الفاعلية. عند فهم الاعتناء الذاتي في إطار تصحيح الفاعليّة المحدّدة، نرى كيف يساهم في تجاوز ثنائية مشاعر اللوم الذاتي أو الشفقة الذاتية، وبذلك لا يقيّد فاعليّة المقهورين بل يعزّز قدرتهم على الفعل، فهو يحرّرهم ولا يكرّس القيود التي تحدّ من فاعليّتهم.

كما ذكرنا سابقًا، بما أن القهر يقلّص فاعليّتنا ويقلّص حجم معرفتنا بها، فالاعتناء الذاتي يساعدنا على ممارسة فاعليّتنا وبالتالي تصحيح معرفتنا لقدراتنا. في إشارته للإمكانيات المتوفّرة لنا وللمحدوديات الموضوعية والواقعية، يزيد الاعتناء الذاتي النقدي واقعية نظرتنا لأنفسنا وللعالم، ويساعدنا على تجاوز قطبية شعور العجز التام أو المسؤولية المفرطة تجاه واقعنا والصعوبات التي نواجهها. يشير هذا إلى ضرورة عدم اختزال الاعتناء الذاتي للمقهورين في الصحة الجسدية والنفسية فحسب، بل عليه أن يشمل مُمارسة الأشخاص لفاعليّتهم وقدرتهم على اتّخاذ القرار، وهو احتياج عيني للمقهورين ينبع من سمات القهر وعمله على تقليص هذه الفاعليّة. تشكّل ممارسة الفاعلية أساسًا ثابتًا لبقية ممارسات الاعتناء الذاتي (الجسدي والنفسي) والاعتناء الجمعي. يساعد الاعتراف بالسياق الموضوعي الذي يحيط بالشخص المقهور وفهمه على التعرّف على ما يهدف لإضعافه من سمات وسلوكيات وأفكار مُستدخلة إليه، وعلى محاولة تجاوزها وخلق واسترجاع بدائل لها. أي أن هذا المفهوم للاعتناء الذاتي يساعد المقهورين على تجاوز الحتميّة النابعة من فهم واقعهم كقضاء وقدر، من خلال دفعنا للتساؤل حول الإمكانيات المتوفرة لنا للعمل والتعافي في ظل منظومات القهر التي تخِل في فاعليّتنا وتحدّ من قدرتنا على تقرير المصير.

يساعدنا ازدياد واقعيّة فهمنا لأنفسنا وللسياق الذي نعيشه على تأطير تجاربنا والصعوبات التي نواجهها، وعلى فهم فاعليتنا ومحدودياتنا وفق مفاهيم مثل العدالة والإنصاف والحقوق والحريات، بدلًا من مفاهيم الذنب واللوم الذاتي أو الشفقة الذاتيّة. يساعدنا هذا في تصحيح النظرة المشوّهة للذات وفي التعرف على الأنماط النفسية والأصوات المُستدخلة من القهر والتي تدفعنا على الظنّ بأننا غير قادرين أو مستحقين أو ناجحين، وتساعدنا في سبيل الامتناع عنها. ممارسة هذا الشكل من الاعتناء الذاتي يعني أنه عندما نُخذل أو نفشل في تحقيق أهدافنا، نَفهم مصادر هذا الفشل في النسيج الاجتماعي وفي عمل منظومات القهر بدلًا من أن نفهمه كدليل على مرضنا أو على ضعفنا، أو على عدم قدرتنا. أي أنّ الاعتناء الذاتي لا يعني المحاولة والنجاح في حلّ الأذيّة والمعاناة، بل فهم أسبابها الموضوعية والخارجيّة للشخص المقهور، وقدراته ومحدوديّاته الواقعيّة في سياقها.

يساعد هذا الفهم للاعتناء الذاتي المقهورين على تجاوز مرضنة الذات وتجريمها، من خلال تعزيز الشعور بأنهم فعلا يستحقون الاعتناء. ولأن الاعتناء الذاتي هذا يساعد الشخص المقهور على التعرف على البُنى الواسعة التي تؤثر على حياته والتي تحدّ من فاعليته وحريته وقدرته على تقرير مصيره، فهو بالضرورة يساعده على التعرف على أشخاص آخرين يشبهوه، يعيشون هذا القهر أيضًا. يساعدنا فهم أن الحالة التي يعيشها الشخص ليست فردية بل جمعيّة على تقديم الاعتناء للآخرين وتلقيه منهم أيضًا. عند توسيع مفهوم الذات من الذات الفردية لذات جمعية، تصبح الأشخاص المقهورة موارد تخدم بعضها البعض، وتكون الجماعة مصدرًا لتعويض الأشخاص عن محدوديّاتهم الفردية. حسب بل هوكس، «في الشفاء-الذاتي يمكن للنساء السود أن يجدن الصوت في داخلهن والبدء في الاستعاضة عنه بصوت دافئ ومتعاطف ورحيم. عند إدراكنا للنتائج الإيجابيّة في حياتنا، نستطيع أن نشارك الكرم الذي نعطيه لأنفسنا مع الآخرين.» [17].

أخيرًا، من المهم التشديد على أن الاعتناء الذاتي هو ممارسة مستديمة ولولبية، لا تهدف إلى الوصول لنقطة نهاية أو لهدف أخير. الاستمرار في محاولة ممارسة الفاعلية والقدرة على اتخاذ القرارات وتقرير المصير، بالرغم من حالات الفشل، هي سيرورة تغذّي نفسها وتطوّرها. النتائج التي يحصل عليها الإنسان المقهور من سيرورة الاعتناء الذاتي هذه عديدة، مثل: الثقة والجَلَد والطاقة، وشبكات الدعم، قوة الإرادة، إدارة والتعبير عن المشاعر وغيرها من الموارد التي تغذي بدورها أيضًا هذه السيرورة وتطورها، للحصول على نتائج إضافية أو تعزيز النتاجات الموجودة. أي أن التحرر من المعاناة النفسيّة النابعة من القهر ليس امتيازًا أو حريّة تُكتَسب، إنما هي ممارسة يومية سياسيّة ومقاومة [18].

خامسًا: ملاحظات خاتمة

عند تجاوزنا لمفهوم الاعتناء الذاتي بمنظوره الفرداني والرأسمالي، والتفكير بتوسيع مفهومنا للذات ومفهومنا للاعتناء، يمكننا مشاهدة أنماط الاعتناء الذاتي وأفعاله التي نُمارسها ويُمارسها أولاد مجتمعنا. بمشاهدتنا لأنفسنا ولمجتمعنا في فترة الهبّة مثلًا، رأينا أنه بالتوازي مع التعب الجسدي والنفسي الذي اختبرناه، كان هناك عمل جمعي يهدف للاعتناء والاهتمام ببعضنا والاطمئنان على بعضنا، بالإضافة إلى طرح مبادرات واقتراحات لمساعدة بعضنا وتلبية الاحتياجات المختلفة، ومشاركة مساحات واجتماعات ومبادرات جمعيّة مختلفة. هذه العناية التي تبادلناها ونتبادلها، تدلّ على أننا مدركين للتعب والإرهاق الجسدي والنفسي الذي اختبره الكثير منّا، وعلى أن ردود الفعل على هذا الإرهاق لم تكن ردود فعل فردية وشخصية، بل اعتناءً جمعيًا.

كما حصل سابقًا في هبّات وحالات طوارئ مجتمعية مختلفة أخرى، رأينا أيضًا في فترة هبّة أيار 2021 الاهتمام في التغذية والطقوس التي تتمحور حول الطعام ومشاركته. في مشاركة الطعام، تحديدًا في فترات الأزمات والصعوبات، نتفق بطريقة غير مباشرة على أن الاعتناء في أجسادنا لم يعد مسؤولية فردية، إنما أصبح مسؤوليّة جمعيّة ويحتاج لعمل جماعي. توجيه الأعمال للذات الجمعية، أو للـ «نحن»، بدل الذات الفردية والـ «أنا»، هو بمثابة ممارسة تحررية تهدف للتعافي الجمعي والشخصي بالتوازي. عندما تجلب سيدة أو شاب الطعام لمشاركته في غرفة الانتظار في المستشفيات أو المحاكم، فإنّ اعتناءهم في الجماعة يعود ويصب بإحساسهم في العمل والفاعليّة والتعافي الشخصي، أي يكون بمثابة اعتناء ذاتي.

بدلًا من السعي المستمرّ للكمال الصحي المتمثل في النموذج الطبي، نطرح هنا مفهومًا مختلفًا للسعي باتجاه الاعتناء الذاتي باعتباره جزءًا من ممارسة جمعية-فردية مستمرّة. إن هذا الطرح هو جزء من فهمنا أن أجسادنا هي آليات تحرّرنا وبالتالي أن هذا السعي للاعتناء هو ممارسة تحرّرية تهدف لتعافي الأجساد والنفوس. في هذا الطرح، التعافي هو ممارسة جمعية-فردية مستديمة للفاعلية، والتي تطوّر بدورها القدرة على ممارسة الفاعليّة واتخاذ القرارات وتحديد المصير.

المراجع:

[1] Grunwald, S. (2021). Embodied Liberation in Participatory Theory and Buddhist Modernism Vajrayāna. Journnal of Dharma Studies.

[2] Kirmayer, L.J. (1988) – Mind and Body as metaphors: Hidden values in biomedicine (p. 57-94) In: Lock & Gordon (eds.) (1988). Biomedicine Examined.

[3] Martin, E. (1991). The egg and the sperm: How science has constructed a romance based on stereotypical male-female roles. Signs, 16 (3), 485-501.

[4] Lorde, A. (1988). A burst of light : Essays. Firebrand Books

[5] Delaney, B. (2020). We need to move on from self-care to something that cannot be captured by capitalism. The Guardian (London), OPINION; Version:1 (January 30, 2020 Thursday)

[6] Ziguras, C. (2004). Self-Care: Embodiment, personal autonomy and the shaping of health consciousness. Routledge.

[7] Delaney, B. (2020). We need to move on from self-care to something that cannot be captured by capitalism. The Guardian (London), OPINION; Version:1 (January 30, 2020 Thursday)

[8] Ziguras, C. (2004). Self-Care: Embodiment, personal autonomy and the shaping of health consciousness. Routledge.

[9] Ziguras, C. (2004). Self-Care: Embodiment, personal autonomy and the shaping of health consciousness. Routledge.

[10] Delaney, B. (2020). We need to move on from self-care to something that cannot be captured by capitalism. The Guardian (London), OPINION; Version:1 (January 30, 2020 Thursday).

[11] Kim, J.B. & Schalk, S. (2021). Reclaiming the Radical Politics of Self-Care: A Crip-of-Color Critique. The South Atlantic Quarterly, 120(2), 325-342.

[12] Delaney, B. (2020). We need to move on from self-care to something that cannot be captured by capitalism. The Guardian (London), OPINION; Version:1 (January 30, 2020 Thursday).

[13] Ziguras, C. (2004). Self-Care: Embodiment, personal autonomy and the shaping of health consciousness.  Routledge.

[14] Kim, J.B. & Schalk, S. (2021). Reclaiming the Radical Politics of Self-Care: A Crip-of-Color Critique. The South Atlantic Quarterly, 120(2), 325-342.

[15] LaGuardia-LoBianco, A.W. (2018). Complicit Suffering and the Duty to Self-Care. Philosophy, 93(2), 251–277.

[16] Kim, J.B. & Schalk, S. (2021). Reclaiming the Radical Politics of Self-Care: A Crip-of-Color Critique. The South Atlantic Quarterly, 120(2), 325-342.

[17] hooks, b. (1993) – Sisters of the Yam: Black Women and Self-recovery. (p. 28 in 3rd edition (2015))

[18] Cromer, F.B. (2021). Transformative Radical Self-care by Women in African and Pan-African Spiritual Traditions: Divine Power of Joy, Lemonade Self-care, Self-love Holiday, Journal of Women, Politics & Policy, 42(1), 4-22.

Scroll to Top