أولاً: مقدّمة النص ومَوضَعته في سياقه
بعد عرضنا لتفكيك أدلجة الواقع في النصّين الثاني، والثالث، واستعادة الذاكرة الجمعيّة وتكوين الوعي النقديّ والسياسيّ في النصّ الرابع، نتأمّل في هذا النصّ في تخطّي الثنائيّات التي ظهرت خلال الهبّة الشعبية عام 2021 والفترة التي تلتها، كجزءٍ من سيرورات تكوين الوعي النقديّ. نفكّر في هذا النصّ في مكانة مشاعر الخوف والذنب والتقصير والمسؤوليّة في العمل المقاوم والثوريّ، وفي ثنائيّة العمل المقاوم وغير المقاوم أو ما يعتبر عملاً أو غير ذلك. نتطرّق في هذا التأمّل لعلاقة تفكيك الثنائيّات في توجّهنا للحِوار الثوريّ أو العمل الحواريّ، بدلاً من العمل الّلا-حواري.
عند موضعة هذه النصوص في سياق مضموننا، يمكننا فهم فعل كتابتها كعملٍ مواجِه. فعلى الرغم من وجود ثنائيّة العمل وغير العمل، والتي تؤطّر الأعمال المواجَهة على أنّها أعمال فعّالة تواجه بشكلٍ مباشر منظومة الاستعمار، وتؤطّر بقيّة الأعمال على أنها أعمال غير مواجهة، علينا تجاوز هذه الثنائية والتأمّل في الأنواع المختلفة من العمل الثوريّ والمقاوم والأدوار المختلفة التي تؤخذ خلال أحداث مثل الهبّة الشعبيّة الأخيرة. تماماً كما في التأمّل في الأعمال الظاهرة وغير الظاهرة، والأعمال التي تؤطّر كأعمال مع قيمة أو أعمال تحرّرية، والأعمال التي تفهم كأفعال محايدة سياسيّاً وغير تحرّرية بما فيه الكفاية.
رأينا هذا التجاوز وكسر الثنائيات في الهبّة الأخيرة، ممّا أتاح للأشخاص الشعور بأنّهم قادرين على العمل وباستطاعتهم أن يكونوا جزءاً منه، وأنّه عمل الجميع ولا يقتصر على مجموعةٍ أو فئةٍ معيّنة، وأتاح لكلّ شخص الشرعيّة وإمكانية المساهمة، كلٌّ حسب استطاعته. تعمل منظومة القهر على سلبنا القدرة على التفكير المجرّد، والحدّ من تفكيرنا ليبقى عالقاً في التفكير الثنائيّ والمبسّط لتأطيرنا وفهمنا لأنفسنا وعلاقاتنا والواقع. وبالتالي، تعتبر ممارسة تخطّّي الثنائيات فعلاً تحرّريّاً وجزءاً أساسيّاً من سيرورات بناء الوعي النقديّ.
ثانياً: المسؤولية في التحرّر
كما ذكرنا سابقاً، تهدف منظومات القهر لجعلنا خاملين وغير مهدِّدين لها. وكثيراً ما يؤطّر هذا الخمول على أنّه أنماط اكتئابية علينا التعافي نفسيّاً منها كي نُصبح فاعلين. على الرغم من هذا التأطير، ما رأيناه في الهبّة الشعبية كان تجسيداً لتوّجهات علم النفس التحرّري، التي لا ترى الفعل كنتيجةٍ للتعافي بل كوسيلةٍ لممارسة التعافي. إنّ جميع أفعالنا، مهما كان الفعل صغيراً أو كبيراً، تُشعرنا أنّنا بدأنا في كسر الخمول وتشعرنا أنّنا (أو بإمكاننا أن نكون) فاعلين وفاعلات. مشاعر تشجعنا على الاستمرار في العمل، على الرغم من وجود مشاعر كالألم والخوف والخذلان في التركيبات النفسية والمشاعريّة لتجربتنا المعاشة. رأينا أيضاً في هذه الهبّة أنّ الربط بين أنواع المواجهة المختلفة وعلاقة تقاطعات مواقعنا الاجتماعية – كنساء مثلًا أو كأشخاص كوير – في أفعالنا المواجهة، أصبح أوضح.
تاريخيّاً، في الهبّات الشعبيّة، وفي هبّة أيّار أيضاً، كان هناك تحوّل من الرغبة بالتحرّر الفرديّ وتحميل المسؤولية للجماعة إلى فهم التحرّر كتحرّرٍ جماعيّ تقع مسؤوليته على الأفراد. في هذه الّلحظات، تَفهم المجموعات المقهورة أنّ «قضيّة كلّ فرد من الأفراد لن تكون عندئذ إلّا قضيّة جميع الأفراد، لأنّهم إمّا أن يكتشفهم جنود الاستعمار جميعاً، فيقتلوهم جميعاً، وإمّا أن ينجوا جميعاً. إنّ ((نجاة الفرد بنفسه))، وهي شكل كافر من أشكال السلامة، هي في هذا الميدان أمر مرفوض» [1]. يساعدنا هذا الفهم على احتضان مشاعر التقصير والذنب التي كثيراً ما نختبرها والتي اختبرناها بشدّة وشاهدناها إبّان الهبّة.
يتيح لنا كسر ثنائيّة المشاعر السلبيّة والإيجابيّة، وثنائية المشاعر السلبيّة والفاعليّة، التأمّل في مشاعر التقصير والذنب والتفكير بها. مثلاً، عندما أشعر في الذنب المستمرّ من تقصيرٍ ما، أو إنْ لم أنضم للمظاهرات والمواجهات بسبب خوفي أو أيّ سببٍ آخر، يمكن لهذا دفعي للتفكير بأنّي جبانة أو غير مقاومة، أو حتّى أنّي متماهية وصاحبة امتيازات. أمّا تأطير وتفكير مسيّس في هذه المشاعر، الذي لا يجرّمها أو يمرّضها، يفتح مجالاتٍ أخرى للتفكير والتساؤل حول الأعمال المختلفة التي بالإمكان القيام بها، غير المظاهرات والمواجهات المباشرة، والتي تغذّي العمل الجمعيّ. في الهبّة هذه وما سبقها، رأينا الأدوار المختلفة التي يتّخذها الأفراد والمجموعات في مجتمعنا، كالتواجد الشعبيّ وإحضار الأكل والإفطار الجماعيّ في غرف الانتظار في المحاكم والمستشفيات.
«حين يجىء كفاح التحرير، فإنّ هذا الشعب الذي كان قبل ذلك مقسّماً إلى طوائف وهميّة، هذا الشعب الذي كان فريسة رعبٍ هائل لا يغلب، وكان مع ذلك سعيداً بضياعه في زوبعة الأوهام، يتبدّل أثناء كفاح التحرير، وينظّم نفسه تنظيماً جديداً، ويخلق في وسط الدم والدموع مهمّات واقعية جداً، مباشرة جداً. فتقديم الطعام للمجاهدين، والقيام بأعمال الحراسة والمراقبة، ومساعدة الأُسَر المحرومة مِمّا يقيم الأود، والنهوض بأعباء زوج قُتل أو سُجن، تلك مهمّات محسوسة ملموسة يُدعى إليها الشعب أثناء كفاح التحرير» [2]
عندما نمتنع عن مرضنة أنفسنا ومشاعرنا، نتمكّن من فهم الخوف كشعورٍ شرعيّ والتعامل معه على أنّه طبيعي ومُهم، لأنّه يشير إلى خطورةٍ حقيقيّة وواقعيّة تقع علينا، ولأنّه يرشدنا للحذر منها. في تأطير وفهم هذه المشاعر، نستطيع أن نراها في حجمها الحقيقي، وبالتالي أن نختار الإصغاء لها والامتناع عن خوض المواجهات بشكلٍ واعٍ أكثر، أو اختيار خوض المواجهات مع وجود هذه المشاعر ودون تجاوزها بالضرورة (مثلاً أن أعي أنّني خائفة وأقرّر المشاركة بمظاهرةٍ دون انتظار تجاوز إحساس الخوف). أيّ أنّ التأطيرات المختلفة التي بإمكاننا أن نعطيها لمشاعرنا تؤثّر على طريقة بلورتها واختبارنا لها.
إضافةً لقدرتنا على اتّخاذ القرار بالنسبة لأنواع أفعال المواجهة التي نستطيع ونرغب في القيام بها، يُتيح لنا تجاوز الثنائيات والامتناع عن تجريم وتمريض المشاعر التي تُعتبر سلبيّة رؤية المباني الاجتماعية والعوامل البنيوية التي تبلور قدرات وإمكانيات الأشخاص حسب موقعياتهم الاجتماعية، ممّا يمكّننا من اتّخاذ المسؤولية عن أنفسنا ومجتمعنا، كما يمكّننا من تغيير العوامل البنيويّة هذه. مثلاً، العديد من الأشخاص الذين رغبوا في التواجد في المظاهرات والمواجهات أو في الاجتماعات والنشاطات المختلفة في هذه الهبّة، لكن لم تُتاح لهم الفرصة للتواجد بحكم ظروفهم الحياتيّة والموضوعيّة، كالأُمّهات ومقدّمي الرعاية للأطفال أو أشخاص تحتاج أن تواجه داخل بيتها، لتستطيع الخروج والمواجهة خارج البيت.
في تجاوز شخصنة ومرضنة المشاعر التي تُعتبر سلبية كالخوف، والتأمّل في المباني السياسيّة التي تلعب دوراً بها، نبدأ في التفكير حول مَن يخاف مَن، وأيّ أهداف يلبّيها هذا الخوف؟ في التنظير النسويّ المناهض للاستعمار مثلاً، يُفهم الخوف على أنّه بنيويا، وليس فقط رد فعلٍ جسديّ (شخصي) لخطر معيّن، وأنه يأتي بوساطة خطاباتٍ سلطويّة حول ماهيّة المهدّد وعلى مَن أن يخاف مِن ماذا، ويهدف بالأساس لتحديد حدود المساحات التابعة لأشخاص معيّنين وليس آخرين، وقدرة أشخاص معيّنين على التحرّك على حساب تحديد تحرّك الآخرين [3].
يساعدنا أيضاً فهمنا لمشاعرنا على إدراك موقعيّاتنا المختلفة، بتقاطعيات هوياتنا المتعدّدة، وكيف تُنتِج قلقاً أو خوفاً أو محدوديات لأشخاص معينّين أكثر صعوبةً من غيرهم. فلنفكر مثلاً بتجربة النساء اللواتي خفن من التواجد في الشارع، ليس بسبب الخوف من المواجهة مع المستعمِر فحسب ولكن أيضاً خشية المواجهة الداخليّة في أسرهن. أو الشبّان الذين كان لديهم أعباء عمل وأعباء مادّية تمنعهم من المشاركة خوفاً من المخاطرة (مثلا خطر الاعتقال).
يفتح لنا هذا التفكير آفاق لاتّخاذ مسؤوليّة جمعيّة على مستويين على الأقل. أولاً، خلق أدوار ومهام وأفعال تستطيع الشخوص التي تواجه محدوديّات بنيويّة واجتماعية القيام بها. ثانياً، التوجّه لتفكيك العوامل البنيويّة (كالذكوريّة مثلاً)، على أنّها أذرع وأشكال مختلفة للقهر الاستعماريّ. مسؤوليّتنا في تغيير حياتنا والمباني الاجتماعية بها هو وعيٌ سياسيّ موجود في أساس ممارسة تقرير المصير. تحديداً لأنّ نضالنا لتقرير المصير يجب ألّا يعتمد على هويّةٍ وطنيّةٍ مقلّصة فحسب كما ذكرنا في نهاية النصّ السابق، فهو يشمل تجارب ومجموعاتٍ مختلفة داخل المجتمع. بالتالي، تفكيك مباني القمع الجنسيّ والجندريّ كالذكوريّة ورِهاب المثليّة ومباني سلطويّةٍ أُخرى في مجتمعنا يعزِّز التآلف والتضامن الاجتماعيّ والتحدّي الحقيقيّ لمنظومات القهر [4].
«نستطيع أن نقول بثقة أنّ عمليّة القهر تستوجب طرفين أحدهما قاهِر والآخر مقهور ولكنّنا لا نستطيع أن نقول أنه خلال عمليّة الثورة فإن هناك شخصاً يقوم بتحرير شخص آخر أو أنّ هناك شخصاً يكتفي بتحرير نفسه فقط لأنّ الحقيقة هي أنّ كل الأشخاص يتبادلون التحرير في عملٍ جماعي» [5]
ثالثاً: الخوف والعدميّة والفرح وروح الفكاهة في الأعمال التحرّرية
إنّ فهمنا للمشاعر كتجارب نخوضها على المستوى الشخصيّّ ولكنّها أيضاً علاقاتيّة واجتماعيّة (لأنّها تتعلق في المعاني والقيم الاجتماعيّة التي نعطيها للمشاعر والمواقف التي نتّخذها تجاهها) [6]، يتيح لنا البدء في التساؤل حول قدرتنا على تغيير المعاني التي تُعطى للمشاعر المختلفة، كما يتيح تجاوز الثنائيّات في التأطيرات المهيمنة لهذه المشاعر، وتأطيرها بطرق تحرّرية تُساعدنا على تخطّي الخمول والعمل المقاوم في ظلّ الأذيّة والصعوبات. مثال على الثنائيات التي تمّ ويتمّ تجاوزها هي الثنائية بين الخوف والتوتّر وبين السعادة والضحك؛ رأينا كيف كانت لدينا خلال الهبّة الشعبية سنة 2021 القدرة الجمعيّة على اختبار مشاعر الحزن الشديدة، ولكن استطعنا في الوقت ذاته نشر «الميمز» والطرائف حول المستعمِر وعدوانه.
عند قبولنا تركيبات الواقع ونفسيّاتنا، وحقيقة اختبارنا للسعادة والفكاهة بالتوازي مع الحزن والكآبة دون أن يوجد تناقض بينهم، نستطيع فهم هذه المشاعر كآلياتٍ سياسيّة. فبالإضافة لوجود اتفاقٍ علميّ على الخصائص الشافية للضحك والفكاهة، يمكننا رؤية هذه الأنماط كإحدى الاستراتيجيات الجمعيّة. ففي نقل النكتة من شخصٍ لآخر ومشاركة الضحك معاً، نمرّر لبعضنا البعض رسالةً مضمونها أننا سويّةً في مواجهة هذا السياق العنيف، وأنّنا نتشارك طريقة فهمه، ممّا يقرّبنا من بعض ويزيد من لحمتنا الجمعيّة. إضافةً إلى ذلك، في ظلّ حجم وشراسة منظومات القهر وعنفها علينا، فإنّ الضحك عليها وعلى الواقع يشكّل آليّةً تساعدنا على الامتناع عن السماح للخوف بالسيطرة علينا لدرجة الخمول. فعندما نضحك على شيءٍ ما، نحجّمه في نظرنا، وحتى أنّنا نرى أنفسنا «أكبر» منه، وبسيطرةٍ ما عليه، ممّا يساهم في تعاملنا مع الواقع العنيف وتداعيات عمل المنظومة على نفسيّاتنا وعلاقاتنا وواقعنا المعاش.
في الواقع، لا يوجد تناقض بين الأمل والبهجة وبين الخوف والخذلان والألم. يمكن تعريف الأمل كـ «الخوف من الأسوأ والتوق الى الأحسن» [7]. أيّ لا يتناقض الأمل مع الخوف فحسب، بل يعتمد ويتأسّس عليه. شعرنا في الهبّة الأخيرة بالأمل، وأنّه من الممكن تكوين واقعٍ مختلف كليّاً، وبالتوازي معه ساد عندنا الخوف. خوف من الخذلان، من الفشل في تحقيق أحلامنا وأهدافنا، وخوف من ردود فعل المنظومة ضدّنا. كانت، وما زالت، هناك رقصة مميّزة بين العدمية والتشاؤم والشعور أنّنا سوف نخذل من ناحية، وبين الأمل والبهجة والرغبة في الاستمرار والبناء الثوريّ من الناحية الأخرى. كأنّنا نلمس الأمل ولكننا نخاف أن نتمسّك به.
من المهم التأمّل في مشاعر العدمية والسخرية والتشائم والخوف، دون تأطيرها كمشاعر تضبط الفعل أو تخِلّ فيه وعلينا تجاوزها للوصول للأمل والسعادة ولكي نفعل ونقاوم، بل كمشاعر موجودة في خليطٍ مع مشاعر أخرى توازنها – كالرغبة في الحصول على اعتراف وكرامة واحترام. وبالتالي، ليس من الضروري أن تمنعنا من الفعل. السؤال المركزي هو ليس كيف يمكننا أن نلغي الخوف، بل كيف يمكننا أن نستمرّ في الأفعال المُواجِهة على الرغم من الخوف وبمرافقته؟
يمكن الوصول إذن إلى فهم مواجهة منظومات القهر وسلطتها بوصفها ممارسة يهدف بها الشخوص للتعبير وتحقيق قناعاتهم شعورهم بالذات، وأحياناً بمعزل عن قدرة هذه المواجهة على تحقيق تغييرٍ ملموس مباشر [8]. حتى الصمت يمكن أن يُعتبر فعلاً مواجهاً ومقاوماً في سياقاتٍ معيّنة ويساعد الأشخاص على التعامل مع العنف السياسيّ والحفاظ على كرامتهم وعزّة نفسهم في ظلّ تجارب تسلبهم من إنسانيتهم [9].
رابعاً: خاتمة وتمهيد للنصّ القادم – العمل الحواريّ كتجاوزٍ للثنائيات
إنّ نقدنا لهذه الثنائيات والتمسّك بها لا ينبع فقط من علاقتها بالمنظومة الفكريّة الاستعماريّة، أو من تحديدها لنا في فهمنا لأنفسنا ولعالمنا فحسب، بل أيضاً من حقيقة أنّ الثنائيّات تمنعنا من الحوار وتبعدنا عنه. وكما لاحظنا في الفترة الماضيّة، وأثبتت لنا ممارسات المجتمع المختلفة، عند تخطينا للثنائيات التي تحصر التفكير حول ممارساتنا، نرى تعدّداً في طرق المشاركة السياسية ضدّ الاستعمار ومنظوماته. رأينا أشخاص شاركت من خلال الإضراب، أو في المواجهة في الشارع أو في البيوت أو بين الأصدقاء أو من خلال الكتابة والتوثيق مثلاً.
نتناول في النصّ السادس الحوار في الجوانب الجمعيّة والعلاقاتيّة والتنظيمية في المواجهة. نكتفي هنا بالتركيز على موضوع تجاوز الثنائيات وأنّ القهر والاستبداد يعتمدان على أساليب الغزو وسياسة التفرقة والاستغلال. أي أنّه في العمل اللاحواري يحوّل المغزو إلى مجرّد شيء، بدلاً من التعامل معه على أنّه إنسان. جميع هذه الأساليب تعتمد وتتأسّس على تفكيرٍ ثنائيّ يرتكز على ثنائية الأنا-الآخر. «إذا كان ((الأنا)) اللاحوارية تحوّل ((الأنت)) إلى مجرّد شيء فإنّ ((الأنا)) الحواريّة […] تدرك أنّ ((الأنت)) قد أدركت واقعها وأنّ المحتم أن تدخل مع ((الأنا)) في علاقة جدليّة من أجل تغيير العالم» [10].
عندما نبقى مع تركيبات تجاربنا ونفسياتنا ونتأمّل بها بشكلٍ جماعي، بدلاً من النظر لها كأجزاء منفصلةٍ ومختلفة وفرديّة، نستطيع أن نتشارك معاً في تجاربنا وأن نتعلّم من خلال العمل الحواريّ عن العالم الذي يحيطنا، وعن أنفسنا فيه، وعن إمكانياتنا ومحدوديّاتنا الموضوعيّة – أيّ نتعلم الأسباب التي تجعلنا نختبر هذه المشاعر المركّبة والطرق التي تساعدنا بعمل أفعالنا ومواجهتنا.
هذا التأمّل والتنظير والحوار حول الأبعاد النفسية والعلاقاتيّة في القهر والمقاومة، بحدّ ذاته، نوع من أنواع العمل التحرّري؛ فبالإضافة لأهمية الحوار في العمل الثوريّ، نتمكّن في الحوار من تحقيق وجودنا الإنسانيّ. وبالتالي، «الحوار لا يُمكن له أن يأتي في مرحلة لاحقة من مراحل العمل بل يجب أن يكون مساوقاً لذلك العمل، كذلك ولما كان التحرير عملاً ذا طبيعة دائمة ومتصلة استوجب أن يكون الحوار ايضا ذا طبيعة متصلة ودائمة في العمل الثوري» [11].
في ختام هذا النص نوّد أن نتأمّل بالطرح الذي نقدّمه في هذا النص والسلسلة، والذي نرغب أن يكون مساحة للتفكير بالأبعاد النفسيّة لتجاربنا، فهذه النصوص هي فقط جزء من الحديث والتفكير في تجاربنا الحياتية والعمل التحرّري الذي نختبره، والذي لا بدّ أن يبقى في تطوّرٍ مستمرّ. لا نحاول طرح ثنائيّاتٍ جديدة، مثل المتجاوز للثنائيات مقابل المتشبث بها، بل نحاول طرح تفكيرٍ مختلف بالأبعاد النفسيّة ككل، لا يكون التجاوز فيه هدفاً نهائيّاً يحصل عليه البعض، بل ممارسة مستديمة وجمعيّة.
المراجع:
[1] فانون، ف. (1961). معذّبو الأرض. (ترجمة د. الدروبي ود. الأتاسي). (ص. 48)
[2] فانون، ف. (1961). معذّبو الأرض. (ترجمة د. الدروبي ود. الأتاسي). (ص. 55)
[3] Ahmed, S. (2004). The Cultural Politics of Emotion. Edinburgh University Press. (Ch. 3. The Affective Politics of Fear. p. 62-81).
[4] hooks, b. (1995). Killing rage: Ending racism. (Ch: Moving from Pain to Power: Black Self-determination p. 251-262).
[5] فرايري، ب. (1968). تعليم المقهورين. (ترجمة د. نورعوض). (ص. 99)
[6] Crawford, N.C. (2014). Institutionalizing passion in world politics: fear and empathy. International Theory, 6(3), 535–557.
[7] Pearlman, W. (2013). Emotions and the Microfoundations of the Arab Uprisings. Perspectives on Politics, 11(2), 387-409.
[8] Pearlman, W. (2013). Emotions and the Microfoundations of the Arab Uprisings. Perspectives on Politics, 11(2), 387-409
[9] Lykes, M.B. and Mersky, M. (2006). Reparations and Mental Health: Psychosocial Interventions towards Healing, Human Agency, and Rethreading Social Realities. in P. de Greiff (ed.) The Handbook of Reparations. (pp.589–622). Oxford University Press.
[10] فرايري، ب. (1968). تعليم المقهورين. (ترجمة د. نورعوض). (ص. 124)
[11] فرايري، ب. (1968). تعليم المقهورين. (ترجمة د. نورعوض). (ص. 104)